إسرائيل وخدعة استثمار الهزيمة

- ‎فيمقالات

“الجولات العربية – الإسرائيلية” اصطلاح تم استخدامه للتعبير عن الحروب التي جرت بين الكيان الصهيوني، منذ قيام دولة إسرائيل في مايو/ أيار 1948، ودول عربية كانت تختلف من جولةٍ إلى أخرى. وينطبق هذا المصطلح على أربع جولات بالتحديد. الأولى، حرب فلسطين عام 1948، عقب إعلان قيام دولة إسرائيل، وكان الطرف العربي في تلك الجولة ممثلا، بشكل أساسي، بمصر والأردن، مع مشاركات من سورية والعراق ووحدات رمزية من دول عربية أخرى، ومع عدم وضوح الهدف بالنسبة للملك فاروق وللجيش المصري، فإن الهدف بالنسبة للملك عبد الله الأول والجيش الأردني، كان أكثر وضوحاً، وهو ضم الضفة الغربية والشطر الشرقي من القدس الذي يضم المسجد الأقصى، وإقامة المملكة الأردنية الهاشمية. على أي الأحوال، انتهت تلك الجولة بهزيمة عسكرية للقوات العربية المشاركة فيها، وانعكست الهزيمة، بطبيعة الحال، على الأمة العربية التي أطلقت عليها “نكبة فلسطين”. ولكن تحقق هدف الملك عبد الله بضم الضفة والقدس الشرقية وقيام المملكة الأردنية الهاشمية، وتم وضع قطاع غزة تحت الإدارة المصرية.

ليست هذه السطور بصدد تحليل (وتقييم) تلك الجولة، أو غيرها من الجولات التي أعقبتها. ولكن ما تُعنى به هو النتيجة النهائية التي كانت تسفر عنها الحرب على الجانبين في كل جولة، بالنسبة للعدو الإسرائيلي. وعلى الرغم من الانتصار العسكري الواضح، فإن الجولة الأولى انتهت باتفاقيات هدنةٍ مع دول الطوق، سواء شاركت في الحرب بشكل مباشر أو غير مباشر، وهي مصر والأردن وسورية ولبنان، ولم يحصل العدو الإسرائيلي على الاعتراف بدولته، واعتبرت الحدود مجرد خطوط للهدنة ووقف إطلاق النار.

اقتصرت الجولة العربية الإسرائيلية الثانية، من الجانب العربى على مصر فقط، في ما يُعرف بالعدوان الثلاثي، أو حرب السويس، في العام 1956، وشاركت العدو الإسرائيلي فيها كل من فرنسا وبريطانيا في شن الحرب على مصر لاحتلال منطقة قناة السويس. وكان على إسرائيل أن تلعب دور مخلب القط بالبدء بالهجوم، وتمكّنت بالفعل من احتلال شبه جزيرة سيناء، وقطاع غزة، وسيطرت على خليج العقبة، ومضيق تيران. وكان ذلك هو الانتصار العسكري الثاني للعدو الإسرائيلي على مصر. انتهت حرب السويس بقرار دولي توافقت عليه كل القوى الكبرى بانسحاب القوات المعتدية، وهو ما تم بالفعل بعد مماطلات إسرائيلية، لكنها لم تتمكّن من استثمار الإنجاز العسكري لتغيير طبيعة العلاقة بين مصر وإسرائيل، حيث عادت العلاقة على أنها علاقة هدنة، من دون اعتراف بالدولة العبرية، وإن حصلت إسرائيل على ضماناتٍ غير مكتوبة بحرية الملاحة في خليج العقبة عبر مضيق تيران المصري.

جاءت الجولة العربية – الإسرائيلية الثالثة في صيف العام 1967، ففي ظل موقفٍ عربي ملتبس، واستقطابات، وصراعات عربية – عربية، أبرزها الحرب العربية في اليمن، وبعد توترات مفتعلة على مدى بضعة أسابيع، شن العدو الإسرائيلي حربه الكاسحة ضد مصر وسورية والأردن، تلك الحرب التى انتهت بهزيمةٍ مروّعة للأطراف العربية، واحتلال إسرائيلي لكامل فلسطين التاريخية، وهضبة الجولان السورية، وشبه جزيرة سيناء، والسيطرة على خليج العقبة وجزيرتي تيران وصنافير المصريتين. ولم يجد العرب مسمّى للهزيمة سوى النكسة.

ليس المراد هنا سرد تفاصيل تلك الجولة، وإنما أن العدو الإسرائيلي، على الرغم من ذلك الانتصار الذى حققه على ثلاث دول عربية رئيسية، واحتلال مساحات شاسعة من الأراضي العربية، وعلى الرغم من مرارة الهزيمة، إلا أن العدو لم يتمكّن من استثمار ذلك كله بتغيير طبيعة العلاقات العربية معه من علاقة وقف إطلاق نار، وهدنة، إلى اعترافٍ بكيان الدولة العبرية، وكان الرد العربي لاءات الخرطوم الثلاث: لا اعتراف، لا تفاوض، لا سلام.

ثلاث جولات من الحروب والمعارك العسكرية، على مدى قرابة عشرين عاماً، حقق العدو الإسرائيلى فيها انتصاراتٍ عسكريةً ملموسةً، ما زالت آثارها قائمةً على الأرض، لكنه لم يستطع استثمار تلك الانتصارات لكسر إرادة الأطراف العربية، والحصول على اعترافٍ بوجود دولته على الأرض الفلسطينية.

بعد ربع قرن من بداية جولات الحروب والمعارك العسكرية العربية – الإسرائيلية، وبالتحديد في أكتوبر/ تشرين الأول 1973، انطلقت الجولة الرابعة، وكانت أطرافها العربية مصر وسورية. اختلفت النتائج العسكرية لتلك الجولة عن الجولات السابقة عليها، خصوصا على الجبهة المصرية، حيث تعرّض العدو الإسرائيلى لهزيمة عسكرية واضحة على جبهة قناة السويس، وفي سيناء. هذا التقدير من واقع المصادر والوثائق الأميركية، والإسرائيلية نفسها. وتكفي الإشارة إلى مذكرات وزير الخارجية ومستشار الأمن القومى الأميركي، هنري كيسنجر، والذي كانت بيده مفاتيح الموقف الأميركي – الإسرائيلي، وإلى تقرير لجنة أغرانات الإسرائيلية بشأن مجريات المعركة على الجبهة المصرية، وقد صدر في كتاب باسم “التقصير”. يذكر كيسنجر أن تقييمه الموقف بعد اندلاع المعارك كان يتركز على نقطتين: الأولى، لا يمكن السماح بهزيمة تُحيق بإسرائيل، حتى لو أدى ذلك إلى تدخل أميركى مباشر. الثانية، إثبات عدم جدوى الحرب، ثم رسائل رئيسة الحكومة الإسرائيلية، غولدا مائير، إلى كيسنجر، اعتبارا من اليوم الأول للمعركة، تطلب فيها تعويض الخسائر الفادحة في الجيش الإسرائيلي، والتي وصلت خلال الساعات الأربع والعشرين الأولى من القتال إلى أكثر من أربعين طائرة مقاتلة ومائتي دبابة.

والأهم ما جرى يوم 9 أكتوبر، في المؤتمر الصحافي لوزير الدفاع موشيه دايان، بعد عودته من جبهة سيناء، وأعلن فيه صعوبة الموقف، وأنه سيخرج على التليفزيون، ليعلن للشعب حقيقة الموقف، وقراره بالانسحاب الى شرق مضيق تيران، والتمسّك بشرم الشيخ فقط، وهو ما منعته عن القيام به غولدا مائير. ثم اجتماع مجلس الوزراء برئاسة مائير، حيث أعاد دايان شرح الموقف وطلبه الانسحاب، وقرار مائير السفر سراً إلى واشنطن، وتوجيه نداء مباشر إلى الرئيس نيكسون لنجدة إسرائيل. وقد نقل ذلك الموقف سفيرها في واشنطن، سيمحا دينيتز، إلى كيسنجر الذي رفض ذلك تماماً، وأنه سينقل الاستغاثة إلى الرئيس بنفسه، وأعلن، فى اجتماع مجموعة العمل الخاصة، أن إسرائيل تلقت هزيمة إستراتيجية.

ذلك كله من واقع الوثائق والمصادر الأميركية والإسرائيلية. اذاً هي الهزيمة العسكرية الأولى للآلة العسكرية الإسرائيلية. أما سير المعارك بعد ذلك التاريخ، فقد حكمته خطة كيسنجر التي أشير إليها، وهي أنه لا يمكن السماح، تحت أي ظروف، بهزيمة تُحيق بإسرائيل، حتى لو أدى الأمر إلى تدخل أميركي مباشر.

المذهل والذي يجب التوقف عنده كثيراً أن الجولة العربية – الإسرائيلية، والتي انتهت بشكل دراماتيكي، بعد الدور الأميركي، أسفرت عن تحقيق إسرائيل، على الرغم من الهزيمة العسكرية على الجبهة المصرية، ما لم تتمكّن من تحقيقه عبر ثلاث جولات، حققت فيها انتصارات عسكرية مذهلة، وهو عقد معاهدة سلام مع أكبر الدول العربية، والعامل المشترك الأعظم في كل جولات الحروب، وهي مصر، والاعتراف بها دولة على الأراضي الفلسطينية، وارتفاع علمها على أول سفارة لها في قلب أكبر العواصم العربية، القاهرة، في استثمار نادر للهزيمة.

يبقى في هذا المجال أن تتذكّر الأمة، وأنبل ما فيها، وهي المقاومة، مقولة الحكيم الصيني القديم، صن تزو، فى كتابه “فن الحرب” .. الانتصار في الحرب ليس أن تكسب مائة معركة، وإنما أن تفرض إرادتك على العدو”.

المقالات لا تعبر عن رأي بوابة الحرية والعدالة وإنما تعبر فقط عن آراء كاتبيها