إهانة القضاء.. أسطورة رسخها العسكر في عقول المصريين

- ‎فيتقارير

“إهانة القضاء”.. تهمة اللا شيء في وجه اللا شيء، وعدمية قانونية تؤكد خضوع القضاة وشامخهم للعسكر ورغبات حلفاء الانقلاب أيضا، مثل واقعة الحقوقية آية حجازي، التي أفرج عنها السفيه عبد الفتاح السيسي، ولم يعتبر أوامر الرئيس الأمريكي ترامب إهانة للقضاء، ولم يجرؤ جنرال واحد أن يرد بكلمة تحفظ ماء وجه العسكر.

ومما زاد الأمر قبحا أن رغبات وأوامر ترامب تزامنت مع تصديق السفيه على قانون السلطة القضائية، الذي مكنه من القضاء داخل البيادة، حتى ينصاع لإرادته وإرادة حلفائه في واشنطن والرياض وتل أبيب، لقد كانت بحق أسطورة وهمية، تلك التي رسخها إعلام العسكر والمتحالفون معهم من رجال الأعمال، في أذهان عموم المصريين لعشرات السنين، حول نزاهة القضاء وقدسيته، وضرورة عدم التعليق على أحكامه باعتبارها “عنوان الحقيقة”.

ومثل الحية التي تلتف أحيانا وتعض ذيلها، تحفَّظ السفيه السيسي على المحامي منتصر الزيات والصحفي عبد الحليم قنديل، المحكوم عليهما بالسجن المشدد 3 سنوات في قضية إهانة القضاء، بدار القضاء العالي، عقب توجههما إلى دار القضاء العالي اليوم، وتسليمهما لأنفسهما إلى محكمة النقض التي تنظر طعنهما و18 آخرين، منهم الرئيس محمد مرسي، أول رئيس مدني منتخب للبلاد، والدكتور سعد الكتاتنى، رئيس مجلس النواب الشرعي.

في حين اختفى الناشط السياسي والبرلماني السابق مصطفى النجار قبل أيام، وترددت أنباء قوية عن أنه اعتقل، ونشر النجار قبل أيام مقالا على صفحته بفيسبوك قال فيها إن نشر هذا المقال يعني أنه اعتقل، ودافع عن نفسه، مؤكدا أن الاتهامات الموجهة له تتعلق بتصريحاته تحت قبة البرلمان عن إفلات قتلة الشهداء في ثورة يناير 2011 من الحساب بسبب طمس الأدلة، وأن هذا هو نفسه ما قاله قاضي محاكمة الرئيس المخلوع حسني مبارك في مقدمته الشهيرة قبل الحكم، حيث أشار إلى عدم توافر الأدلة.

أسطورة الشرفاء!

سنوات العسكر في الحكم والتي تزيد على 60 عامًا كانت كفيلة بتزييف الوعي العام وإقناع قطاعات شعبية وحركات سياسية إصلاحية وثورية بمجموعة من المقولات تنطوي على مغالطات كبرى، ومنها أن القضاء هو “الحصن الحصين” و”ملاذ المظلومين” وأن عملية التغيير في مصر ينبغي أن تعتمد على “شرفاء القضاء”، باعتبارهم الأغلبية العظمى والكثرة الكاثرة.

ثم ذهبت السكرة وجاءت الفكرة، وكشفت ثورة يناير ورقة التوت عن أسطورة “القضاء الشامخ” الذي كان الأداة الرئيسية لدولة العسكر في إجهاض التحول الديمقراطي وإهدار الإرادة الشعبية وتبرئة كل ظالم وإدانة كل مظلوم، إن الذاكرة المصرية لن تنسى الدور الذي قام به “الشامخ” في تهريب المتهمين الأمريكان في قضية التمويل الأجنبي لمنظمات المجتمع المدني، وتبرئة كل مجرمي الشرطة من جرائمهم إبان الثورة، وحل مجلس الشعب المنتخب من أكبر هيئة ناخبين في تاريخ مصر أكثر من 30 مليون ناخب، ومساندة الانقلاب العسكري، وتأييد تعطيل الدستور المستفتى عليه من أغلبية تقترب من الثلثين، والإشراف على مسرحية محاكمة الرئيس المنتخب الهزلية، وعرقلة كل مساعي الإصلاح لكل مؤسسة ينتخبها الشعب.

ما جرى عقب إعلان انقلاب 3 يوليو 2013، سيظل دليلا هاديا للمخلصين في هذا الوطن، إلى أنه لا يمكن تكرار خطأ الاعتماد على أدوات الدولة المباركية في تحقيق أهداف الثورة؛ لأن التغيير والحرية والكرامة الإنسانية والعدالة الاجتماعية لا تتحقق عبر فئات بنت امتيازاتها على جثة حقوق عموم المصريين لعشرات السنوات.

لقد كشف انقلاب 3 يوليو خطأ ثوار يناير حين هتفوا هتافهم الشهير: “الشعب يريد إسقاط النظام”، على نسق الثورة التونسية التي نجحت في إزاحة زين العابدين بن علي عن الحكم قبل ثورتهم بأيام، حيث لم يدركوا حينها أن مصر ليست “تونس”، ففي تونس جيش يحمي الشعب من عسف الشرطة، ويرفض إغراءات الحضور السياسي، وقضاء يتم تطهيره ويحكم بأحكام رادعة ضد أعداء الثورة، وشراكة وطنية تعددية في الحكم ضد “الفلول”، في تونس جيش “يحمي الثورة” فعلا وليس قولا.

دولة الجنرالات

ما تحتاجه مصر لتحقيق التغيير المنشود أعمق من مجرد تغيير النظام، لأن الحاكم الحقيقي في مصر هو “الجنرالات”، دولة العسكر ذات الأذرع بحسب تعبير السفيه السيسي، والتي يمثل الذراع القضائي فيها مركزية أساسية، لقد تم تغيير النظام السياسي بالفعل بعد ثورة يناير، حيث تم انتخاب مجلس شعب جديد ومجلس شورى جديد، ورئيس جديد، وتم تشكيل حكومة جديدة، فضلا عن الاستفتاء على دستور جديد يؤسس لعلاقات جديدة بين جميع مؤسسات الدولة، لكنّ شيئا من ذلك لم يكن ذا أثر حقيقي على الأرض؛ لأن عدو ثورة يناير هو “الدولة” التي أسسها الجنرالات.

الدولة ذات القلب العسكري رفضت الاعتراف بكل نتائج الانتخابات والاستفتاءات المتعاقبة، وأصبح النظام السياسي بأكمله عاجزا عن تحقيق أي من أهداف الثورة؛ لافتقاده أدوات التنفيذ العملية على الأرض، ولم يقتصر الأمر على ذلك، بل تعداه إلى محاولة “الذراع القضائية” حل كل مؤسسة منتخبة بما يحول دون اكتمال حلقات النظام الجديد ولو شكليا، إلى الدرجة التي دفعت الكثير من الثوار لرفع شعار “إما الثورة على القضاء أو القضاء على الثورة”.

بات واضحا أن معركة الثورة المصرية مع “دولة الجنرالات” التي لم يمثل النظام فيها سوى واجهة مدنية لقلبها العسكري وأذرعه الأربعة: الشرطة والقضاء والإعلام والمخابرات، وكل ذلك بدعم كامل من طبقة رجال الأعمال المباركية، باعتبارها الداعم المالي والحليف الرئيسي لدولة العسكر. لم يكن إعلان 3 يوليو مجرد انقلاب عسكري تقليدي، بل كان إعلانا بنهاية أساطير تزييف الوعي العام، ومنها الجيش “الوطني”، والقضاء “الشامخ”، والإعلام “التنويري”، والمخابرات “الشريفة”، والأزهر “الوسطي”، والكنيسة “المحبة”، وبنهاية هذه الأساطير من العقل الجمعي المصري تكون عجلة التغيير الحقيقي قد بدأت في الدوران، وإن احتاجت بعض الوقت، وذلك بعد تنقية الصفوف من عملاء الدولة العسكرية، وتنقية العقول من أساطير أسهمت في سوء إدارة الثوار لمعركتهم الأولى.

ولا مجال في نضال المصريين نحو التغيير لمحاولة إصلاحية جديدة تعتمد على ذات أدوات الدولة القديمة، فقد بات درس الانقلاب واضحا: لا تحقيق لأهداف الثورة وفق منهج إصلاحي بأي حال من الأحوال، مطلب الثورة الآن هو دولة جديدة، وليس مجرد نظام جديد، وهو مطلب يحتل فيه “القضاء” مركزية استراتيجية كي يكون شامخا بحق.