ذكريات رمضانية

- ‎فيمقالات

– من منا لا يذكر أول يوم صامه؟ بالتأكيد هو يومٌ لا يُنسى رغم تميز الطفولة بعدم الاحتفاظ بجلِّ أحداثها. تجتمع داخل الطفل فى هذا اليوم مشاعر شتى فتصير خليطًا يجعله فرحًا منتشيًا وفى الوقت ذاته تعبًا مرهقًا، لديه الرغبة فى مواصلة الصوم فى حين يقتله الجوع والظمأ. كان يومًا من أيام عام 1975 وقد استيقظت فيه مبكرًا، ولم أكن أعرف النوم والراحة التى يعرفها أطفال وشباب اليوم؛ إذ فُرض علينا العمل والسعى منذ الصغر؛ فكان يومًا شديدًا على نفسى، لكننى كنت سعيدًا، لدى إصرار الكبار لاستكمال الصوم، وقد كدت أهلك فى ساعاته الأخيرة لما قطعت مسافة طويلة بالدراجة؛ فما إن وصلت إلى البيت حتى أمسكت بإناء الماء أنتظر لحظة النطق بالأذان.. ولا أذكر أننى ذقت شيئًا فى تلك الليلة غير الماء.

– ذكرنى هذا الموقف برمضان فى قريتى قبل أن تلحق بركب (حضارة البلاستيك) التى أفسدت جمالها وبساطتها. لم يكن بالقرية كهرباء، ولم يكن بها عشرات المساجد مثل الموجودة الآن، بل كانت أربعة فقط، يرتفع الأذان من فوق المئذنة بدون مكبر صوت؛ فما إن يسمعه عشرات الأطفال المحتشدين أمام المسجد حتى يسرعوا كلٌ إلى بيته لإعلام أهله بوجوب الإفطار. كانت الحياة بسيطة للغاية، لكن كان لها طعم طيب.

كان كثير من أهلنا بالقرية يضعون (الطبلية) أمام البيت فما يمرّ مارٌّ لم يسعفه الوقت للإفطار مع أهله إلا قدموا له الطعام والماء. وكان للسحور حفلة يومية رائعة؛ إذ مع عدم وجود كهرباء وأدوات سهر كان الناس يستغرقون فى النوم فلا يستيقظون إلا على صوت (المسحراتى) الذى كان يتبعه عشرات الشباب ينشدون ويغنون، ويطرقون الأبواب والشبابيك، وكانت البيوت عبارة عن دور طينية من طابق واحد فى الغالب، يسمون الناس بأسمائهم، ويمزحون ويمرحون، وربما دخلوا الدار فأكلوا وشربوا وخرجوا سعداء.. واليوم لا أرى شيئًا من هذا، اختفت كل هذه المظاهر، واختفت معها المشاعر الجميلة والصلات الحميمة، مثل فروع النيل فى قريتى (الترع والقنوات) التى كانت صافية الماء، تجرى بدون انقطاع، الآن صارت جافة، ذات رائحة كريهة، يغطيها الدود ومخلفات (الحضارة الحديثة).. ولله الأمر من قبل ومن بعد..

– ومن ذكرياتنا التى لا تُنسى؛ تلك الليالى البعيدة من الشهر الفضيل، نهاية الثمانينيات وبداية التسعينيات، وقد كنت حريصًا على ألا تفوتنى صلاة التراويح فى أحد المساجد الشهيرة.. فكان يأتينى (استدعاء) من مطبعة روزا اليوسف لمراجعة المجلة (لواء الإسلام).. يا له من إحساس مزعج، وليس فى الأمر خيار، كنت سكرتير تحرير المجلة الفنى الذى لا بد أن يراجع (الإسترلونات والزنكات) وأن يوقع على البروفات وإلا تعطلت المجلة عن الصدور فى موعدها، وهذه كارثة تتحملها أنت بالفصل من عملك على أقل تقدير. استمر هذا الإزعاج خمسة رمضانات، لكن ما لا أنساه هو رائحة الحبر فى المطبعة، وعلاقتى بعمالها البسطاء الذين جاءوا من أحيائنا الشعبية محملين بحب الإسلام وأهل الدعوة، وفى الوقت الذى كانت مؤسستهم ترفع لواء الشيوعية وتحارب الإسلاميين كانوا هم يستقبلوننا بالحفاوة والود، ويكرموننا أيما إكرام، خصوصًا فى أوقات المراجعة الممتدة والتى قد تصادف الإفطار أو السحور. جزى الله خيرًا الأحياء منهم والأموات.

– ما أجمل الإسكندرية قبل أن تحل عليها نقمة الزحام وتغزوها الأبراج ويفسدها التلوث والعشوائية، وما أجمل (رأس التين) وأهلها الطيبين البسطاء. قضيتُ سنة خدمتى العسكرية فى هذه المنطقة، وكنا نخرج كل ليلة فى رمضان لإحضار سحورنا من شوارعها العريقة، فكنا نشم فيها عبق التاريخ والأصالة، وقد اشتهرت المنطقة بموائد الرحمن العامرة بكل أنواع الأسماك. حيا الله أهلنا الكرام فى (رأس التين) وما جاورها حتى (سيدى جابر) التى ألفتها أقدامنا جيئة وذهابًا، وقد تنقلنا بين مطاعمها ومقاهيها المتعددة، ولا أدرى كيف صارت هذه المناطق الآن والتى لم أزرها من يومها (ديسمبر 1986) وإن كنت أسمع من وقت لآخر عن انهيار منازل فى شوارع وطرق كنت أمر بها.

– ربما لا تصدق لو قلت لك إننى فى سنة من سنوات التسعينيات تناولت إفطارى 27 يومًا خارج بيتى (معزومًا). حدث هذا بالفعل قبل أن يزورنا الغلاء والبلاء. من يقدر اليوم على تكلفة (عزومة) واحدة؟ إن هذا الأمر يثير الأسى فى النفوس؛ إذ تقطعت بسببه أواصر القربى والجيرة والصداقة، وقد اشتدت الأزمة هذا العام والأعوام السابقة حتى صرنا نسمع قصصًا محزنة عن بيوت لكرام لا تجد ما يكفيها وقد كانت من قبل عامرة لا تُرفع موائدها.. ولا حول ولا قوة إلا بالله.

– لا أنسى الإفطار السنوى الذى كان ينظمه الإخوان ويحضره رموز التيارات السياسية والمشاهير. كان تجمعًا وطنيًّا بمعنى الكلمة، وقد حرصت على حضوره للقاء أكبر عدد من تلك الرموز؛ ولقراءة المشهد العام من خلال فعاليات الإفطار وكلمات الحضور. كانت لقاءات مبهجة وساعات محببة إلى النفس. كما كنت حريصًا على حضور الإفطار السنوى لـ(عمنا: محمد عبد القدوس) فى بيته على كورنيش الزمالك، وكان نسخة مصغرة من إفطار الإخوان، يحضره الرموز الوطنية أيضًا على اختلاف توجهاتهم، وكانت مائدته حاشدة بأطايب الطعام والشراب. بارك الله فى المضيف وهدانا وإياه سواء السبيل.

– ولا أنسى فترة الشباب فى رمضان؛ حيث العزيمة والمضاء، والمنافسة فى الخير، والاجتهاد فى خدمة الدعوة، وقد صادفت هذه المرحلة مولد (شنطة رمضان)، و(كسوة العيد)؛ فكان الخير عميمًا، والمتصدقون كثرًا، والمساجد مزدحمة بأعمال البر. وأقول الحق: إن شعبنا المصرى مثل قطعة الذهب التى غطاها التراب، فمهما علق به من شوائب يظل قيّمًا ثمينًا تظهر أصالته بمجرد إزالة تلك الشوائب عنه، ولولا البوم الناعق فى أرجاء المحروسة منذ نحو سبعين سنة لكان لهذا البلد شأن آخر بفضل نفاسة هذا الشعب.

– فى يوم الإثنين (2/12/2002) (26 من رمضان) اقتحم مكتبى مجموعة ضباط فى زى مدنى، واستولوا على أرشيفى الصحفى وعلى عدد من أجهزة (الأبل) واقتادونى إلى القسم، وقد ضايقتهم وضايقونى بعد إصرارى على معرفة هويتهم؛ ما جعل كبيرهم يوصى بى شرًا؛ إذ أسرّ إلىّ أحد الأفراد المرافقين للحملة أنه أرسل فى طلب أحد ضباط الأموال العامة الكبار والمعروف بقسوته، ودعا لى هذا الشرطى بالنجاة من هذا الضابط. جاء الضابط المخيف وأدخلونى عليه؛ فقام الرجل للترحيب بى، وظننت ذلك خديعة أو سخرية بعد كل ما سمعته عنه، لكنه قال لى نصًا: أعلمُ يا أستاذ فلان أنكم أحسن الناس، ولولا الضغوط التى تعلمها ما جئت إلى هنا. وإن لى رجاء عندك؛ ألا تدعو علىّ؛ فالليلة ليلة القدر، وأنا على سفر لزيارة والدتى، وأما بخصوص ما جرى وما جئت من أجله فلا يكن فى نفسك شىء من خوف أو قلق. هذا المشهد وغيره مما لا يتسع المقام للحديث عنه مما وقع أثناء أيام هذه الحادثة لا يُنسى بالتأكيد مهما مرت السنون، وكلما جاء رمضان تذكرت ما جرى، وتذكرت معه نفحات رمضان وبركاته الوافرة.

كل عام وأنتم بخير.

المقالات لا تعبر عن رأي بوابة الحرية والعدالة وإنما تعبر فقط عن آراء كاتبيها