أوروبا الحفترية.. وحفتر الأوروبي

- ‎فيمقالات

ليس مفاجئًا على الإطلاق أن يتصنّع مجلس الأمن العمى والجهل أمام مذبحة مروّعة وجريمة ضد الإنسانية، كما يقول الكتّاب، ارتكبها الجنرال المتقاعد خليفة حفتر، بقصف مقر إيواءٍ للمهاجرين غير الشرعيين في ليبيا.

لا يهم هنا إن كانت واشنطن هي التي عطلت صدور قرار إدانة بحق مرتكبي المجزرة، فالشاهد أن مواقف العواصم الكبرى في أوروبا لا تختلف كثيرًا عن موقف دونالد ترامب، ذلك أن الجميع يبدون وكأنهم متوافقون على أنه لا يمكن التضحية بنموذج خليفة حفتر، حتى لو تم إزهاق أرواح آلاف الفارّين من القمع والظلم والبؤس في بلدانهم، بحثًا عن حياةٍ أخرى، بعبور المتوسط.

لو كانت الدول الكبرى راغبةً حقًا في إيقاف فظائع الجنرال المنفلت، لكانت لها مواقف مختلفة مما يمارسه في طرابلس والمدن الليبية، وكونها، حتى اللحظة، تبدو راضية، بل وداعمة للمغامرة الحفترية، فهذا يعني أن انتظار موقفٍ حازمٍ وحاسمٍ منها تجاه مذبحة المهاجرين يعد من أشكال الإفراط في تفاؤلٍ غير مبرّر.

وكما ذكرت سابقًا مع بداية محاولة حفتر وداعميه الإقليميين السيطرة على العاصمة الليبية، فإنه بعد خمس سنوات من زراعة حفتر، ينتقل التحالف الإقليمي والدولي إلى مرحلةٍ جديدة، لاستئصال كل الأطراف الأخرى في المعادلة الليبية، لتصبح دولة حفترية كاملة الملامح، استنساخًا للنموذج السيسي في مصر، الأمر الذي يحتم على الليبيين أن يستعيدوا ذاكرة الثورة، وينظروا إلى جوهر المسألة: إما ليبيا.. أو حفتر.

معلوم مسبقًا أن حكومات الدول الأوروبية تؤسس علاقاتها بحكام الشرق الأوسط على قاعدة وحيدة، هي القدرة على القضاء على الهجرة العابرة للبحر المتوسط إليها، حتى لو أدّى الأمر إلى فناء المهاجرين أنفسهم، بقتلهم في مخيمات النزوح، أو إغراقًا لسفنهم في مياه المتوسط.

لا يعني هذه الحكومات أن الحاكم في البلدان المتصلة بحرًا بأوروبا يمتلك شرعيةً قانونيةً أو أخلاقية أم لا، يرتكب جرائم بحق شعبه أم لا.. المهم أن يؤدّي دور خفير السواحل على الوجه الذي يحقق مصلحتها في منع وصول الهاربين من ويلاتهم إليها.

وتلك هي الشفرة التي التقطها طغاة الشرق الأوسط، واشتغلوا عليها، فلا يخلو خطاب لعبد الفتاح السيسي، مثلًا، من تذكير أوروبا بأنه حارسها الأمين الذي يقوم بمهمة حمايتها من المهاجرين الأوغاد، بل أن إيطاليا، على سبيل المثال، تبدو مستسلمةً تمامًا لمحاولات دفن ملف الطالب الإيطالي جوليو ريجيني الذي قتلته الأجهزة الأمنية المصرية.

ومثل السيسي، يفعل بشار الأسد، وخليفة حفتر، والآن جنرال الجنجويد السوداني يقدّم نفسه للمجتمع الدولي بهذه الصفة: قاتل كفؤ لمحاولات الهجرة الأفريقية إلى الضفة الأخرى من البحر المتوسط.

في هذا الوضع البائس، لن يفيد تضييع الوقت والجهد في محاولة تخمين من قتل العشرات في معسكر المهاجرين في ليبيا.

صحيحٌ أن الثابت أنهم قتلوا بقذائف ميليشيات خليفة حفتر، إلا أن الأخيرة ليست سوى أداة ارتضتها العواصم الأوروبية، وتستخدمها جيدًا لمنع الهجرة إليها، ومن ثم فإن الجاني الحقيقي هنا ليس البندقية، أو من ضغط على الزناد، بل هو من أعطى القاتل بندقيته، وسكت عن جرائمه. وعليه، فإن من قتلهم زعماء حكومات أوروبية تكافئ جنرالاتٍ دمويين على مجهوداتهم الكبيرة في منع مراكب الهجرة، حتى لو كانوا يقتلون شعوبهم، ويغرقون الهاربين من الاستبداد في عرض البحر.

الجاني هو من أفهم هؤلاء الطغاة أن شرعية الحكم ليست عدد الأصوات في صناديق الانتخاب، بل عدد قطع السلاح في صناديق الذخيرة، وعدد الضحايا في توابيت الموت التي تتخذ شكل قوارب هجرة غير شرعية.

نقلا عن العربي الجديد