إعادة تعريف السيسي

- ‎فيمقالات

إحياء ذكرى مذبحة رابعة العدوية ليس طقسًا كربلائيًا، ولا رغبةً في البكاء على الأطلال، كما يصوّر بعض الذين ترهق مشاعرهم، المرهفة، صور ولقطات أبشع مجازر التاريخ المصري.
ليست المسألة حفرًا في أعماق الجرح، تلذذًا بالألم، وإنما هي إعادة تعريف للأشياء والأشخاص، حماية للذاكرة من التآكل الذاتي، أو تمزيق أوصالها بالروايات الكذوب. هنا يكون التذكر شكلًا من أشكال التشبث بالحياة، وفعلًا من أفعال المقاومة والدفاع عن المستقبل بتحرير الماضي من الأوهام.

يلفت النظر في التفاعل مع الذكرى السادسة للمذبحة أنها باتت وجعًا قوميًا شاملًا، وجرحًا غائرًا في وجدان الجميع، ليتسع نطاقها، كما لم يحدث من قبل، من مجرد كونها سرادق عزاء إخواني، أو مناسبة حزينة لتيار الإسلام السياسي، إلى كونها قضية الوطن كله، وفجيعة المجتمع الإنساني بأسره، إذ تأتي الشهادات، هذه المرة، من أطياف مختلفة من السياسيين، تمنح الأحداث والأشياء والشخصيات أسماءها الحقيقية.

هنا تكتسب الذكرى أهميتها من قدرتها على إعادة تعريف الشخوص والأفعال بشكل واضح: ما جرى جريمة ضد الإنسانية، تستوجب محاكمة مرتكبيها. عبد الفتاح السيسي جنرال دموي قاتل، وليس مجرد حاكم مستبد وصل إلى السلطة بطريقة غير شرعية، الخلاف مع السيسي لا يتعلق بالأداء وإنما بالدماء.

الصحيح أن هذه المعاني كانت واضحة منذ اللحظة الأولى بنظر بعض الشخصيات التي انتصرت للمبدأ ولم تساوم على الحقائق، من اليسار واليمين، مثل الحقوقي الراحل أحمد سيف الإسلام حمد الذي وصف “رابعة”، منذ اللحظة الأولى، بأنها جريمة نظام، وأن الثلاثين من يونيو/ حزيران 2013 هي انقلاب عسكري يضع على وجهه أصباغًا مدنية، وقبله الدكتور حسن الشافعي، نائب شيخ الإزهر ورئيس مجمع اللغة العربية، السابق، والجميع يتذكّر مفردات خطاب هذا العالم الأزهرى الجليل، مع افتتاح مرحلة المذابح، وهو الخطاب الذي جاء أكثر اتساقا مع مبادئ الديمقراطية وقيم الدولة المدنية الحديثة، من خطاب رموز ليبرالية البيادة وديمقراطية المدرعة.

هذه القراءات المحترمة للحدث، وقت وقوعه، لم تُسمَعْ جيدًا وسط الضجيج الاصطناعي الكاذب احتفالًا بإسقاط الرئيس المنتخب، باعتبارها انتصارًا ثوريًا، وإن سمعت، فإنها كانت تجلب لأصحابها اللعنات والاتهامات، بل والتحريض عليهم، والآن وبعد ست سنوات من الكارثة، ثمة نوبة صحيان صادقة للضمير لدى مجموعات من المصريين فعلوا بثورتهم ما فعل السيسي بجزيرتي تيران وصنافير، متوهمين أنهم بذلك ضمنوا البقاء والرخاء، ثم أفاقوا على صوت ارتطام رؤوسهم بأرض لا تشبع من الدماء، ولا تكف عن ابتلاع الأحلام.

وكما قلت مرارًا، الكل يقف أمام الحقيقة العارية الآن: هذا نظام لا يصون العرض، ولا يحافظ على الأرض، نظام يريق الدم ويبيع الرمل والتراب،على قمته شخص قرّر أن يحرق كل شيء كي يبقى في سلطته، يعدم معارضيه، ويقتل قضاته، ولا يتورع عن ارتكاب أي جريمة، أو حماقة، يتوهم أنها تطيل بقاءه في الحكم، وفي سبيل ذلك يهمه أن يصنع الإرهاب بيديه، إن لم يكن موجودا، كي يحيا على عوائد محاربته.

تحضر هنا كلمات مدوية أطلقها المناضل الحقيقي عصام سلطان، قبل أن تلتقطه يد الطغيان وتودعه السجن في ظروف غير إنسانية، يقدم فيها التوصيف الدقيق للجريمة، والتعريف الأدق لمرتكبيها، حين دون قائلًا، عقب الانقلاب “إن ما جرى ويجرى مع الرئيس محمد مرسى المنتخب بإرادة الشعب الحرة، هو عار على جبين الإنسانية كلها! ليس رجلا من تقاعس عن قول الحق، حتى ولو كان مختلفا مع الإخوان أو غير الإخوان… سأظل كما أنا.. وكما عرفتموني.. سأظل رجلا.. ولن يعمينى خلافي السياسي عن قول الحق أبدا أبدا أبدا.. فمن أراد أن يعيش رجلا ويموت رجلا فلا يحيد عن هذا المبدأ.. وأنا معه إلى آخر المشوار.. وإليه وحده أوجه هذه الكلمات.. وليس لغيره من أنصاف الرجال… إن حذاء الرئيس المنتخب عندي، هو أفضل وأشرف وأنزه وأعلى وأغلى قيمة من كل الرؤوس المتواطئة المتآمرة عليه، حتى ولو كانت تطيل اللحى وترتدى العمائم… أو تضع النياشين”.

تلك كانت صرخة تنادي على الضمير الوطني والإنساني والثوري، قبل أن يغرق الطوفان الجميع، غير أن الرد عليها، في وقتها، كان سخرية واتهامًا بالأخونة، وتحريضًا على إسكاته، فلما انقضت ست سنوات من الخراب والقهر والتدمير الكامل للنسيج الاجتماعي، لم يعد أحد يجادل في استحالة التعاطي مع نظام يقتل كما يتنفس من وضعية المعارضة الشكلية، باستثناء أولئك الذين يتغذون على الإقصاء والفاشية، ولا يشبعون من الدماء.

نقلا عن “العربي الجديد”