إعلام داعش وإعلام عباس

- ‎فيمقالات

في العملية الإرهابية الأخيرة التي استهدفت كمينا أمنيا في سيناء، كما في المرات السابقة، ظهر إعلام داعش (رغم رفضنا الكامل له) هو الأكثر تأثيرا، وكانت روايته (بغض النظر عن صحتها) هي الأكثر قبولا بين الناس، على خلاف إعلام عباس كامل الذي فقد مصداقيته ولم يعد أحد يصدق رواياته التي ينقلها عن المتحدث العسكري؛ بعد أن ثبت مرات عديدة كذب هذه الروايات (يتذكر الجميع أن هذا المتحدث ذاته سبق أن أعلن في أيار/ مايو 2018 عن مقتل العقيد هشام عشماوي، ثم ظهر عشماوي حيا بعد عام).

تناقلت الألسنة رواية داعش عن مقتل 14 عسكريا، بينما ظلت رواية المتحدث العسكري بقتل ثمانية فقط محصورة في إعلام عباس كامل لم تتعداه، وكان الجميع في هذه المرة، كما في المرات السابقة، في انتظار إصدار مرئي من تنظيم داعش يصور تفاصيل العملية، وهو ما حدث فعلا، بينما راح إعلام عباس كامل ينقل بيانات المتحدث العسكري ووزارة الداخلية عن تصفية مهاجمي الكمين، والذين ذكر أنهم ثمانية أفراد مرة و14 فردا مرة أخرى، دون أن يقدم صورة واحدة للحظة الاشتباك معهم، ودون أن يقدم حتى أسماءهم.

يعلم الجميع الآن أن الكثيرين ممن يقتلهم الجيش أو الشرطة عقب أي عملية إرهابية يكونون مواطنين لا علاقة مباشرة لهم بالجريمة التي وقعت، ولكنهم أسرى لدى قوات الأمن (مختفون قسريا منذ فترات طويلة) ويجري تصفية بعضهم عند الطلب ثأرا لمن قتلوا من رجال الجيش أو الشرطة؛ لتهدئة مشاعر ذوي الضباط والجنود والرأي العام أيضا.

عشرات المختفين قسريا من أبناء سيناء، وأضعافهم في الوادي هم رهائن جاهزة للذبح عقب كل عملية تفشل الأجهزة الأمنية في مواجهتها، وهؤلاء الرهائن المختفون قسريا هم في مسؤولية هذا النظام، بل في رقبة كل داعميه في الداخل والخارج أيضا، ومن واجب الجميع التحرك سريعا لإنقاذهم قبل العثور على جثثهم قتلى.

رغم الترسانة الإعلامية الضخمة التي يهيمن علها ويديرها اللواء عباس، كامل مدير المخابرات العامة (ومدير مكتب السيسي السابق)، إلا أنها مجرد بالونات ممتلئة بالهواء تنفجر بمجرد ارتطامها ببيان مكتوب أو إصدار مرئي لتنظيم داعش، حيث لا تصمد الأكاذيب مهما بلغت سطوتها في مواجهة الحقائق مهما بلغت ندرتها. لا يعني هذا الكلام دعما أو تأييدا أو حتى تصديقا مطلقا لبيانات و”بروباغاندا” داعش، ولا يعني قبولا بمنهجها التكفيري، ولا عملياتها الإرهابية، ولكنه تشخيص للدرك الأسفل من الانهيار الذي الذي بلغه الإعلام المصري الذي يشرف عليه ويوجهه عباس كامل تطبيقا لرؤية عبد الفتاح السيسي في الاصطفاف الإعلامي خلفه، استدعاء لتجربة إعلام عبد الناصر في الستينيات، وتوضيح أن هذا الإعلام الرسمي هو الذي يدفع الناس دفعا إلى إعلام داعش بحثا عن حقيقة مفقودة، فلا يكتفون بسماع بياناته، بل تستهوي بعضهم أفكاره وسمومه الأخرى فيلتحقون بالتنظيم، ويصبحون خطرا على العالم كله.

لم يبادر إعلام عباس كامل مرة واحدة بالإعلان عن أي هجوم إرهابي تعرضت له قوات الجيش أو الشرطة في سيناء، ويقتصر دوره غالبا على رد الفعل بعد أن تنتشر أخبار العمليات الإرهابية وتظهر أعداد القتلى والمصابين، ساعتها يقع هذا الإعلام في “حيص بيص”، حتى يصدر المتحدث العسكري أو زارة الداخلية بيانا حول الحادث، فيتسابق هذا الإعلام في نقله والتعليق عليه.

يعيش الإعلام المصري أحلك فتراته، وتقبع مصر في المنطقة المعتمة في مؤشر حرية الصحافة الدولي في المرتبة 163 عالميا، ولا يستطيع الإعلام المصري نشر الروايات الحقيقية للأحداث، مقتصرا على الرواية الرسمية التي يتضمنها بيان متحدث الجيش أو الشرطة، ومن يخالف ذلك يعرض نفسه لعقوبة قاسية وفقا لقانون مكافحة الإرهاب الذي يحظر نشر الروايات غير الرسمية، حتى لو كان الصحفي أو المصور شاهد أو صور بنفسه.

يغلق النظام المصري سيناء بالضفة والمفتاح”، ويمنع وسائل الإعلام المحلية والأجنبية من تغطية الأحداث فيها بحرية، كما يمنع المنظمات الحقوقية والإغاثية من الحركة على أرضها؛ حتى لا تنقل المآسي التي يتعرض لها أهل سيناء تحت مزاعم حرب الإرهاب، وحتى حين نظمت الهيئة العامة للاستعلامات جولة للإعلام العربي والأجنبي في سيناء أواخرر تموز/ يوليو 2018، فقد تم انتقاء وسائل الإعلام المسموح لها بالمشاركة في الجولة، كما تم اختيار أماكن آمنة بعيدة عن الأحداث، ووفي النهاية كانت كل الصور الملتقطة تحت الرقابة “وفقا لاتفاق مسبق”.

المؤكد أن كلا من إعلام داعش وإعلام عباس يكذبان، لكن كما يقول المثل “الكذب صنعة”، وفي هذه الصنعة تفوق إعلام داعش للأسف؛ لأنه يدعم بياناته بصور من أرض المعركة، وبصور لرجاله قبل وبعد عملياتهم الإجرامية، فيما يكتفي إعلام عباس بصور جثث قتلى ملقاة على الأرض وبجانبها قطع سلاح، بزعم أنها جثث إرهابيين قتلوا أثناء اشتباك مع رجال الجيش أو الشرطة، ويظهر لاحقا أن بعض هؤلاء كانوا محتجزين لدى الأجهزة الأمنية منذ فترات طويلة، وأن ذويهم ومحاموهم تقدموا ببلاغات عن اختفائهم منذ أسابيع أو شهور.

فقدان ثقة الشعب المصري في إعلام عباس كامل منح الإعلام المناهض للسيسي فرصة كبرى للوصول إلى بيوت وفئات من المشاهدين لم تكن قابلة له من قبل، بحكم تشبعها بدعايات النظام ضد هذه القنوات، مثل الجزيرة والشرق ومكملين، ووطن والعربي والحوار وغيرها، لكن حرمان المواطن المصري من حق تدفق المعلومات الذي يكفله الدستور جعله يبحث عن الأخبار الصحيحة في منابر أخرى، ولم يعد يأبه بتشويه النظام لها، وهذا يلقي بدوره عبئا أكبر على هذه القنوات لتطوير أدائها، وتنويع خطابها بما يحافظ على هذا الوافد الجديد، بل وجذب المزيد، وحتى يكون بديلا آمنا ومقنعا عن إعلام داعش أيضا.

المقالات لا تعبر عن رأي بوابة الحرية والعدالة وإنما تعبر فقط عن آراء كاتبيها