الحراك الثوري في مالي إلى أين؟

- ‎فيمقالات

في الخامس من يونيو الماضي اندلعت موجة مظاهرات عارمة في جمهورية مالي (غربي أفريقيا)، تصاعدت مع الوقت حتى وصلت إلى حالة عصيان مدني شل العديد من المرافق الحكومية عدة أيام، قبل أن تقرر قيادة الحراك إيقافه بشكل مؤقت حتى انتهاء عطلة عيد الأضحى، وإن كنت أعتقد شخصيا أن هذا التوقف لسبب آخر وهو منح الفرصة للوساطة السياسية الأفريقية لحل الأزمة.

مالي دولة مسلمة يقطنها حوالي عشرين مليون نسمة، وهي مستعمرة فرنسية سابقة نالت استقلالها عام 1960، وقد شهدت أول انقلاب عسكري بعد الاستقلال عام 1968 بزعامة موسى تراوري، والذي أطاح به انقلاب آخر في 1991 بقيادة أمادو توري، وبعد فترة انتقالية تم انتخاب ألفا عمر كوناري رئيسا للبلاد عام 1992، وأعيد انتخابه مرة أخرى عام 1997، ليخلفه أمادو توماني، والذي أطاح به انقلاب عسكري في العام 2012 بدعوى مواجهة الانفصال في شمال البلاد بقيادة حركة تحرير أزواد (الطوارق). وقد دخلت على الخط جماعات إسلامية مسلحة أخرى تقترب من تنظيم القاعدة. ولكن هذا الانقلاب لم يلبث سوى عام، تم بعده إجراء انتخابات رئاسية فاز فيها الرئيس الحالي إبراهيم كيتا الذي وعد بتحقيق الوحدة الوطنية في البلاد، ومواجهة الانفصال في الشمال، وتحسين الوضع الاقتصادي للبلاد.

الحراك الثوري الذي بدأ منذ 5 يونيو الماضي، كان نتيجة لتراكم المشكلات السياسية والاقتصادية والأمنية، لكن السبب المباشر لتفجر الاحتجاجات كان هو تزوير الانتخابات البرلمانية التي جرت في شهر مارس وأعلنت نتائجها مطلع إبريل الماضي، حيث قامت المحكمة الدستورية التي أعلنت نتيجة الانتخابات باقتطاع عدد من المقاعد من بعض الأحزاب وإضافتها إلى الحزب الحاكم وشركائه (30 مقعدا).

لم تكن هذه المشكلة هي الوحيدة كما ذكرنا، لكنها كانت القشة التي قصمت ظهر البعير. فقد فشل الرئيس كيتا في تنفيذ وعوده التي وصل إلى الحكم بناء عليها، وفتح الباب واسعا للفساد السياسي والاقتصادي والإداري، ومكن عائلته وأقرباءه من التحكم في الكثير من مفاصل السياسة والاقتصاد في البلاد.

وظل الوضع متوترا في الشمال رغم توقيع اتفاق في 20 يونيو 2015؛ ينص على إنشاء مجالس محلية ذات صلاحيات واسعة ومنتخبة بالاقتراع العام والمباشر، ولكن بدون استقلال ذاتي في شمال البلاد أو نظام اتحادي، ودمج المقاتلين الطوارق ضمن قوة أمنية خاصة بالشمال، وتمثيل أفضل لسكان الشمال في مؤسسات الدولة.

وظلت تهديدات حركة أزواد وبعض الحركات الحليفة لها؛ للعاصمة باماكو قائمة، وتسببت العمليات العسكرية لها في مقتل آلاف العسكريين والمدنيين وتدمير مئات القرى وإغلاق العديد من المدارس.

الوجود الفرنسي في مالي، والذي تم منذ العام 2013 تنفيذا لقرار أممي لمواجهة تحركات المجموعات الشمالية نحو العاصمة، أصبح الآن أحد مصادر التوتر، حيث يعتبره الماليون احتلالا جديدا، ويطالبون بانسحابه من بلادهم، لكن فرنسا تعتمد في بقائها على اتفاق مع رئيس الدولة.

مع تفاقم الانسداد السياسي والفشل الاقتصادي والأمني بدأت احتجاجات نخبوية للسياسيين والصحفيين، ثم ما لبثت أن تحولت إلى احتجاجات شعبية عامة منذ 5 يونيو، حتى أطلق اسم 5 يونيو على الحراك الثوري الحالي، والذي بلغت ذروته خلال الأيام القليلة الماضية. وقد تدرج في مطالبه من إصلاحات سياسية واقتصادية إلى المطالبة بإسقاط الرئيس إبراهيم كيتا الذي يعتبره الحراك فاقدا لشرعيته الآن، خاصة بعد سقوط 23 قتيلا على يد رجال الشرطة، والمطالبة بحل البرلمان وكذلك المحكمة الدستورية المتهمة بتزوير الانتخابات البرلمانية الأخيرة.

ويشارك في هذا الحراك 100 حركة سياسية، والعديد من الرموز السياسية الكبرى بينهم وزراء سابقون، ومسئولون كبار، وعلماء دين؛ يتصدرهم الشيخ محمود ديكو، الرئيس السابق للمجلس الإسلامي الأعلى، والذي ينظر إليه حاليا باعتباره القائد الأبرز للحراك. ولهذا تسعى الأطراف الداعمة للنظام إلى شيطنة الشيخ واتهامه بالسعي للحكم، وهو ما نفاه الرجل مرارا وتكرارا.

أمام تصاعد الحراك الثوري في مالي سارعت المجموعة الاقتصادية لغرب أفريقيا (الإيكواس) بإرسال بعثة وساطة برئاسة الرئيس النيجيري السابق غو دلاك جوناثان، والتي زارت العاصمة المالية باماكو في الفترة من 16 إلى 19 يوليو تموز الجاري، وقدمت مقترحات للحل تمثلت في تصحيح الخلل في الانتخابات البرلمانية (يتعلق بـ30 مقعدا برلمانيا)، وإعادة تشكيل المحكمة الدستورية، وتشكيل حكومة وحدة وطنية، 50 في المائة من أعضائها من الائتلاف الحاكم، و30 في المائة من المعارضة، و20 في المائة من المجتمع المدني. لكن قادة الحراك رفضوا هذا العرض الذي لم يتضمن إقالة الرئيس.

ومع استمرار الأزمة وتواصل الحراك، كلف التحاد الأفريقي أربعة من الرؤساء بتشكيل وفد وساطة جديد (ضم رؤساء غانا، ونيجيريا، والسنغال، وساحل العاج). وقد التقى الوفد بالرئيس كيتا وقادة حراك 5 يونيو، وعرضوا مجددا مقترحات للحل تستثني المساس بالرئيس كيتا، وهو ما رفضه قادة الحراك مجددا، معتبرين ذلك إملاء غير مقبول، بل ذهب الشيخ محمود ديكو أبعد من ذلك حين أكد أنه مستعد أن يموت شهيدا بدلا من أن يموت خائنا. وإزاء ذلك فقد قررت مجموعة الإيكواس عقد قمة طارئة غدا الاثنين عبر تقنية الفيديو لبحث الأزمة.

من الواضح إصرار قادة الحراك على مواصلة الاحتجاجات حتى تنحي الرئيس إبراهيم كيتا، لكنهم مع ذلك حققوا خلال الأيام الماضية مكاسب لا بأس بها، مثل إعادة تشكيل المحكمة الدستورية، وتشكيل حكومة وحدة وطنية جديدة، وتصحيح الخلل في نتائج الانتخابات البرلمانية. كما أن نجل الرئيس كيتا وهو نائب برلماني ورئيس لجنة الدفاع في البرلمان، وكان مرشحا لخلافة والده، قد استقال من البرلمان لتهدئة المتشكيين. ومن الممكن للحراك حال عودته عقب عطلة العيد أن يحقق المزيد من المكاسب.
—-
نقلاً عن "عربي21"