ما زالت ردود الأفعال على مظاهرات 20 سبتمبر تتفاعل داخل أروقة نظام السيسي المهترئ، مُحدثة ارتباكًا واضحًا وسجالات وتضاربًا غير خافٍ على الأنظار، وقرارات ومحاولات لامتصاص الغضب الشعبي، الذي لو استمر أسبوعًا إضافيًّا لأسقط نظام الاستبداد الذي يقوده السيسي بدعم من أمريكا وإسرائيل وتحالف الشر الخليجي بقيادة الإمارات والسعودية.
ونقلت مصادر موثوقة من داخل أجهزة الانقلاب لوسائل إعلام عربية، أن الاختلافات في الرأي والتخطيط للتحركات المقبلة بين الشخصيات المؤثرة في دائرة عبد الفتاح السيسي تتصاعد بصورة كبيرة، وسط ترددات عدة لانتفاضة 20 سبتمبر الماضي وما تلاها من أحداث، تحديدا بين مدير المخابرات العامة اللواء عباس كامل والضباط والمسئولين التابعين له، وبين محمود السيسي.
وعلى الرغم من أن الاثنين يتشاركان واقعيًّا في إدارة الدائرة الرئاسية، ولا تظهر خلافاتهما في العلن حتى على مستوى جهاز المخابرات العامة، إلا أن إرهاصات هذا الخلاف بدأت تتسرب إلى الدوائر الحكومية والإعلامية المتأثرة بقراراتهما واتجاهاتهما.
وتروي ثلاثة مصادر، أحدها نائب برلماني والآخران مسئولان حكوميان، أن محمود السيسي يعارض “الإجراءات الاستعراضية التي تتخذ في البرلمان والإعلام لادعاء أن هناك حالة من الانفتاح السياسي، وكذلك السماح بنشر بعض المقالات المعارضة لسياسات السيسي في الصحف خلال الأسبوع الأخير”. وهي الإجراءات التي اتُخذت بناء على تعليمات واضحة من عباس كامل وفريقه، المسئول عن الرقابة على الصحف بشكل أساسي وتسيير الأغلبية البرلمانية والنواب المشاهير الذين يُستخدمون للتأثير على الرأي العام كمصطفى بكري ومرتضى منصور.
وتكشف المصادر عن أن السيسي الابن عقد اجتماعا، خلال الشهر الماضي، مع عدد من المسئولين في المجلس الأعلى للإعلام المختص بالرقابة على وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي، والهيئة الوطنية للإعلام المختصة بإدارة اتحاد الإذاعة والتلفزيون والصحف القومية، بحضور “عدد محدود من الإعلاميين المعروفين بقربهم الشخصي منه”، وطالبهم ببذل مزيد من الجهد في الترويج لسلامة وكفاءة النظام “دون إظهار أي إشارة إلى التراجع”.
وعلى النقيض، أصدر عباس كامل تعليماته لمساعديه المتحكمين في تسيير البرلمان والإعلام بضرورة أخذ زمام المبادرة في توجيه سهام النقد (المدار) إلى النظام ممثلاً في الحكومة، متبعا بذلك وللمرة الأولى، الاستراتيجية القديمة التي كان يتبعها نظام الرئيس المخلوع حسني مبارك مع الأزمات الشعبية المتلاحقة، خصوصا في السنوات العشر الأخيرة من عهده، ليبدو رئيس الجمهورية وكأنه الملاذ الأخير للمواطن البائس، وأنه يعمل على تخفيف وطأة قرارات الحكومة، وكأنه منعزل عنها وعن سياساتها.
ضوء أخضر
وتقول المصادر، إن مستشارة السيسي للأمن القومي، فايزة أبو النجا، كان لها دور كبير في توجيه دفة التعامل السياسي نحو هذه الوجهة الدعائية، كما أن مستشاره الأمني أحمد جمال الدين أشار بضرورة “ترك مساحة محسوبة للنقابات ووسائل الإعلام للتعبير عن الرأي والانتقاد”، بناء على نصائح من الأمن الوطني لم تقبلها سابقا دائرة السيسي.
وتربط المصادر بين هذه التطورات وبين مستجدّين آخرَين. المستجدّ الأول تمثّل بصدور بيانين عن الأحداث الأخيرة من نقابة المحامين، يتحدث عن ضرورة كفالة حق الدفاع للمعتقلين، ومن نقابة الصحافيين يتحدث عن ضرورة الالتزام بأحكام الدستور ورفع الرقابة عن الصحف وتحرير المحتوى الإعلامي. أما المستجد الثاني فعبارة عن التعامل السريع من الداخلية والنيابة العامة مع حادث اعتداء ضابط شرطة بالمحلة على محام في واقعة غير سياسية وحبس الضابط.
وتقول المصادر إن البيانين صدرا بعد الحصول على ضوء أخضر من عباس كامل شخصياً، وإطلاع بعض المسئولين الأمنيين على فحوى البيانين قبل صدورهما، أما بخصوص التعامل السريع من النيابة مع واقعة الضابط والمحامي، فالسبب أن الأمن الوطني حذّر من تفاقم الغضب في أوساط المحامين بعد أيام من القبض على بعضهم ضمن اعتقالات سبتمبر الماضي المرتبطة بالحراك الشعبي، واعتقال المحامي الحقوقي محمد الباقر خلال حضوره جلسة التحقيق مع الناشط السياسي علاء عبدالفتاح، والتضييق على بعض المحامين وتهديدهم وإخبارهم بأنهم مطلوبون على ذمة قضايا جديدة أثناء دفاعهم عن المعتقلين.
وحذّر الأمن الوطني في هذا السياق من أن تجاهل غضب المحامين سيؤدي إلى التجاوب مع دعوة حاول البعض نشرها عبر المجموعات الخاصة بهم على مواقع التواصل الاجتماعي، بمقاطعة التحقيقات في القضايا السياسية الأخيرة لزعزعة شرعيتها بعد التأكد من امتثال النيابة العامة للتعليمات الأمنية.
وتعكس هذه المعلومات استمرار تضارب الرؤى بين الشخصيات المؤثرة في دائرة السيسي، بالتوازي أيضًا مع استمرار الخلاف حول طبيعة ومستوى التعديل الوزاري العتيد، وفي ظل عدم وضوح الرؤية بالنسبة لبعض الوزراء الحاليين الذين يرغب عباس كامل في الإطاحة بهم، لكن الشخصيات المرشحة لخلافتهم ما زالت تتمنع عن القبول بالمنصب. وهو ما فتح مجالا واسعا في كواليس دواوين الوزارات حول الاستعانة بشخصيات من عهد الرئيس المخلوع حسني مبارك، لكن محمود السيسي يرفض التوجهات التي يروج لها البعض على نطاق واسع بدعوى حاجة الحكومة لكفاءات حقيقية في المرحلة الحالية.
كما أن هناك نقاشات في الدائرة المصغرة للسيسي داخل القصر الرئاسي حول ضرورة اتخاذ قرارات اقتصادية جديدة، تخفف أعباء المواطنين، وعدم الاكتفاء بالآليات الحالية التي بدأ النظام استخدامها، لتخفيض أسعار البنزين والغاز بواسطة آلية التسعير التلقائي، وإعادة قيد 1.8 مليون مواطن في منظومة التموين الجديدة، وضمّ نحو 270 قرية لنطاق مبادرة “حياة كريمة” لإصلاح المرافق، وزيادة المشمولين براتب “تكافل وكرامة”. وتتجه هذه النقاشات إلى ضرورة اتخاذ “إجراءات حماية اجتماعية أكثر مؤسسية واستمرارية، مع تحقيق التوازن بينها وبين الأعباء المترتبة على الدولة جراء الاقتراض”، إذ يرى أصحاب تلك الرؤية وكذلك يرى السيسي أن الحكومة الحالية تفشل في تقديم حلول جذرية لتخفيف الضغط على النظام، وعلى حد تعبير المصادر “لا تتمتع بالخيال الكافي لاستحداث حلول من خارج الصندوق”.
ولعل تلك الاختلافات التي قد تصب في صالح الشعب المأزوم، تؤكد أن الكل قد أجرم بحق الشعب المصري، عبر تجويعه وفرض إجراءات قسرية عليه، ورفع أسعار جميع السلع عليه حتى دخل نحو 80% من المصريين دائرة الفقر، كما باتت أكثرية الشعب لا تجد العلاج، فيما يتمتع السيسي وأسرته بكل خيرات مصر، ويتنعّمون في القصور التي تُبنى من ميزانيات البلد، وبسببها تُخفّض رواتب المعلمين وتتعرض المدارس لأسوأ أنواع الخدمات.