رواتب الحكام العرب واستقالة “جونسون”

- ‎فيمقالات

في المنطقة العربية، لا أحد يعرف قيمة مخصصات رئيس الدولة المالية، ولا راتبه الحقيقي، وعلى أي أساس تتحدد العلاوات والحوافز الممنوحة له، ولا أحد يعرف ثروته الحقيقية قبل توليه منصبه ومصدرها، أو مصدر نفقات أسرته قبل وبعد تولي منصبه.

ولا أحد يعرف حجم ثروات أبناء وأسر هؤلاء الزعماء والقادة وكبار المسئولين في الدولة، وكيف تتراكم تلك الثروات يوماً بعد يوم رغم مرور الدولة أحيانا بأزمة اقتصادية ومالية تدفع كبار المسؤولين بها إلى إصدار قرارات بالتوسع في فرض مزيد من الرسوم والضرائب وزيادة الأسعار والاقتراض الخارجي وبيع أصول الدولة من أراضي وشركات.
ولا توجد في معظم الدول العربية جهات تراقب أنشطة هؤلاء الحكام المالية، أو تطبق عليهم قانون "من أين لك هذا" في حال تضخم الثروة بشكل لا يتناسب مطلقا مع الراتب، وإن وجدت فهي صورية مشلولة الحركة منزوعة الصلاحيات.

ودليل ذلك ما كشفته الثورات العربية من إيداع حكام عرب وأسرهم أمثال القذافي ومبارك وعلي عبد الله صالح وزين العابدين بن علي مليارات الدولارات في بنوك سويسرا وأميركا وبريطانيا وغيرها في حساباتهم وأرصدتهم الشخصية، وليس في حسابات الدولة واحتياطياتها من النقد الأجنبي، واستثمار مليارات أخرى في عقارات لندن وباريس وألمانيا وبورصات وأسهم وسندات العالم، وفي المعادن النفيسة كالذهب وغيره.

كما رأينا في السنوات الماضية حالات فساد صارخة لكبار المسؤولين في الجزائر وموريتانيا وتونس والسودان والعراق والأردن وغيرها من الدول العربية التي نهب حكامها والعصابة المحيطة بهم خزانة الدولة وحولوا مئات الملايين من الأموال العامة إلى الخارج.
لم يقل لنا أحد: هل يجوز للحاكم، سواء كان رئيس دولة أو ملكا أو غيره من المسميات، الحصول راتب مفتوح غير محدد القيمة، أو الحصول على عمولات وسمسرة بمئات الملايين من الدولارات عن صفقات تبرمها أجهزة الدولة مع أطراف خارجية، صفقات شراء سلاح وطيران وبيع ديون خارجية مثلا؟
وهل يجيز القانون للحاكم والأسرة الحاكمة الحصول على مخصصات مالية ضخمة من إحدى الشركات الكبرى التابعة للدولة، ومن الذي ينظم تلك المخصصات، وهل تخضع مثلا لرقابة الجهاز المركزي للمحاسبات داخل الدولة، أم تخضع للأعراف والتقاليد غير المكتوبة.

في المقابل نجد في الغرب رقابة صارمة على مخصصات الحاكم، سواء كان رئيسا أو رئيس وزراء، فهناك جهات رقابية تحاسب وتراقب وتحدد بدقة تلك المخصصات المالية، من رواتب وحوافز وبدلات سفر وغيرها، وهناك القانون والبرلمان وغيره من الجهات الرقابية، وهناك الرقابة الأهم وهي الناخب.
وفي ظل هذه الرقابة المحكمة يعرف الحاكم في الغرب حقوقه المالية كاملة ولا يستطيع تجاوزها حتى، وإن أراد، بسبب أسلوب الرقابة السابق واللاحق على الصرف.
وأحيانا ما يشكو هذا الحاكم لمن حوله من ضعف راتبه، وأنه لا يستطيع تغيير شقته المتواضعة التي يقيم بها قبل توليه منصبه، وأن راتبه لا يكفي لتوظيف مديرة لبيته، أو تمويل رحلة سفر خاصة له ولأسرته للتنزه في الخارج.

أحدث مثال على ذلك رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون، الذي يفكر في الاستقالة من منصبه بسبب ضعف راتبه وشقته المتواضعة التي يقيم بها في لندن، كما اشتكى جونسون، مرات عدة، لأشخاص مقربين منه من حالته المعيشية السيئة، وأن راتبه لا يكفي لتوظيف حاضنة لطفله الجديد، وأنه يخشى من عدم استطاعته تحمل نفقات الدراسة الجامعية لأربعة من أبنائه الستة.
وأن راتبه تراجع إلى 150 ألف جنيه إسترليني سنويا بعد أن كان 350 ألفا بسبب اقتطاع 200 ألف منه بسبب الأزمة المالية التي تمر بها بريطانيا بسبب تفشي فيروس كورونا، وأنه ليس لديه مدبرة لمنزله باستثناء خادمة تقوم بمهام التنظيف.

هذا هو حال رئيس وزراء بريطانيا صاحبة أقوى سادس اقتصاد في العالم، في الوقت الذي نجد دولاً عربية يبني فيها حكامها وكبار مسؤوليها قصورا شاهقة وفيلات واستراحات بكلفة تتجاوز مئات الملايين من الدولارات دون مراعاة لظروف البلاد المالية والاقتصادية، وقبلها مراعاة أحوال المواطن المعيشية.
في ظل الحوكمة والحكم الرشيد وحكم القانون ودولة العدل وأنظمة المحاسبة والرقابة الصارمة يستطيع المواطن في الدول الغربية أن يعرف كل صغيرة وكبيرة عن راتب أكبر مسؤول في الدولة، وعن الحوافز التي يتقاضاها من أموال الدولة التي هي في الأصل أموال دافعي الضرائب.

وفي ظل القمع والاستبداد يخشى المواطن العربي أن يحدث نفسه ليس فقط عن قيمة راتب رئيس الدولة، بل عن العمولات الضخمة التي يتقاضاها أي مسؤول في الدولة من صفقات بيع الشركات الحكومية والسلاح وأصول الدولة.