شواهد الخلافة العثمانية تفضح سقوط إمارات الشر في مستنقع “ممالك النار”

- ‎فيتقارير

“هذا النشاط يبدو مفيدًا لنا؛ لأنه يتماشى مع أهدافنا المباشرة بتفتيت الجبهة الإسلامية، وهزيمة وتمزيق الإمبراطورية العثمانية، وإذا عولج العرب بطريقة مناسبة سيظلّون في حالة من التشرذم السياسي، ونسيجًا من الإمارات الصغيرة المتحاسدة وغير القابلة للتماسك”.

بهذه الكلمات وثّق القائد العسكري توماس إدوارد، الملقب بـ”لورانس العرب”، أثناء قيادة بريطانيا للثورة العربية الكبرى، الحالة التي صنعتها الخلافة العثمانية الإسلامية في الغرب الصليبي، والتي دفعته للعمل مع حفنة من العملاء لوأد آخر مظاهر الوحدة الإسلامية، وتحقيق حلم التقزم والتبعية، الممتد أثره المأساوي حتى الآن.

ويكفي قيادة بريطانيا لثورة عربية “كبرى” ضد دولة الخلافة، للوقوف على مخطط تمخض في وقت لاحق عن حدود سايكس بيكو، وما تبعها من تمزيق الأمة الإسلامية إلى حزمة من الدول المتناحرة، والتي عجزت عن الخروج من نفق التشرذم حتى بعد مرور قرن على سقوط الدولة العثمانية، وتجذر التبعية وانشطارها بين العم سام أو القيصر الروسي.

ممالك النار

وليس أدل على حالة التقزم والتشرذم بين أبناء الدين الواحد، من إقدام محمد بن زايد على تمويل وإنتاج مسلسل عربي متعدد الجنسيات، شارك في إخراجه إسبان وإنجليز، وأشرف على الديكور والمعارك الطليان، بميزانية تجاوزت 660 مليون جنيه، من أجل تشويه آخر عواصم الخلافة، ووصمها بالاحتلال، وتصوير سلطان المسلمين بالدموي.

حقد إمارات الشر على ما هو إسلامي، والخلاف العميق مع تركيا، لا يبرران على الإطلاق تشويه التاريخ الإسلامي، بعمل لا يقل جريمة عن تشويه الدراما للخليفة هارون الرشيد، ووصم والي عكا المجاهد بالخيانة، واليوم جاء الدور على سلاطين رفعوا راية التوحيد في قلب أوروبا، وكسروا شوكة الحملات الصلبية، ليتحولوا في قاموس ابن زايد وتابعه السيسي، إلى “ممالك النار”، عبر سوق الأكاذيب والمغالطات التاريخية.

قيامة أرطغرل

محاولة حصر المشهد في حلبة صراع النفوذ الدرامي، على خلفية تعاظم الإنتاج الدرامي التركي، بأعمال رائعة بحجم “محمد الفاتح”، و”قيامة أرطغرل” و”السلطان عبد الحميد”، والآن مسلسل “المؤسس عثمان”، وهي الأعمال التي حظيت بالمشاهدة في 146 دولة حول العالم، وبلغ عدد متابعيها أكثر من 700 مليون مشاهد، أمر يجافي الواقع ويتجاهل الحقيقة.

الدراما التركية على حبكتها القصصية، والتماس مع التاريخ، لم تعمد إلى تشويه الأقطار العربية بقدر مع عملت على تجسيد الواقع، بل لم يتردد المؤلف في الإشارة إلى تحالف إسلامي بقيادة الظاهر بيبرس لمواجهة خطر المغول، واحتضان حاكم حلب للفارين من الحملات البيزنطية، في دلالة واقعية على أن توثيق منجزاتك لا يستلزم تشويه أو النيل من الآخرين.

وفي ضوء تلك المعطيات تعلق العرب قبل الترك بمسلسل قيامة “أرطغرل” على وجه التحديد، لما يتضمنه من قيم وأدبيات وعقائد وثوابت يفتقدها العالم الإسلامي، فضلا عن وحدة وتكاتف تبدو في أمس الحاجة إليها، والتخلص من الخونة والعملاء وحلفاء الشر، بحثا عن قيامة طال انتظارها، واستعادة أمجاد الأولين.

بشارة نبوية

الشهادة للدولة العثمانية لم تخرج ابتداء من مراجع الأتراك، ولم تستق من المؤرخين العرب، وإنما كانت وساما نبويا، بشر به رسول الله، في حديث رواه الإمام أحمد في مسنده: «لتفتحن القسطنطينية، فلنعم الأمير أميرها ولنعم الجيش ذلك الجيش».

بشارة سيد الخلق ربما تحرك لها شيوخ السلاطين من أجل البحث عن مخرج يبعدها عن السياق العثماني، إلا أن التاريخ يوثق أن محمد الفاتح، سابع سلاطين آل عثمان، هو القائد الذي فتح الله على يديه العاصمة البيزنطية وهزيمتها في عام 1453م.

ولمن لا يعلم قيمة الإنجاز العثماني بفتح القسطنطينية، فقد شكل حلما لدى خلفاء وقادة المسلمين منذ الدولة الأموية، طمعا في أن يكون أحدهم صاحب بشارة الرسول، وضمها إلى بلاد المسلمين، ورفع الأذان في عاصمة الأرثوذكس، والتي ظلت عصية طيلة 8 قرون، نظرا لموقعها الحصين وأسوارها السميكة.

ولو لم تصنع الدولة العثمانية منجزا للعالم الإسلامي سوى فتح القسطنطينية، وتحويلها إلى مركز حضاري عالمي، وقبلة للعمارة الإسلامية العامرة بالمساجد الأثرية الشامخة لكفى، إلا أن لها جهود سابغة على الأمة، حتى تكالب عليها الغرب المستعمر وعملاء المشرق.

مؤتمر بال

منجزات دولة الخلافة العثمانية، يمكن الوقوف على توابعها اليوم في مشاهد عربدة الصهاينة في فلسطين بدعم طواغيت العرب، بعدما وقوف السلطان عبد الحميد في وجه مخطط اليهود، ومنعهم من إقامة وطن قومي لهم في أرض الزيتون.

الخلفية العثماني رفض توصيات مؤتمر بال، الذي انعقد بسويسرا، عام 1897م، باتخاذ فلسطين وطنا لليهود، وعرضت الحركة الصهيونية على السلطان قرضًا بقيمة 50 مليون جنيه، وهدية خاصة بـ5 ملايين جنيه، ورد بتعزيز القوات في القدس، وإصدار مرسوم يقضي بمنع هجرة اليهود، وحرمانهم من التملك في فلسطين.

وهنا يبرز السؤال الكاشف للمتنطعين، هذا موقف سلطان العثمانيين ضد سقوط القدس في أيدي الصهاينة، فماذا فعل ابن زايد والسيسي وباقي العملاء لنصرة المدينة، سوى مزيد من التطبيع والتسليم للكيان العبري والتآمر ضد المرابطين؟

دحر الصليبيين

الدولة التي رفعت راية الإسلام في نصف الكرة الأرضية، ووصلت حدودها من الصين شرقا إلى النمسا غربا، وقفت في وجه الطموح الغربي في بلاد العرب، والطمع الصليبي في ثروات ومقدسات العالم الإسلامي، والاستعمار الذي تحقق دفعة واحدة بعد سقوط الخلافة.

الدولة التي غزت إيطاليا والنمسا وحاربت روسيا وأخضعت القوقاز، وأجبرت فرنسا على التحالف، كانت حائط الصد أمام الطموح الأوروبي في الشمال الإفريقي، حيث وقف السلطان سليم الأول إلى جانب الجزائر في مقاومة الاستعمار.

وتصدى الأسطول العثماني العظيم مرتين لمحاولة الجيش البرتغالي احتلال اليمن وجدة، والسيطرة على مكة المكرمة والمدينة المنورة، فألحق بهم سلسلة من الهزائم، وأجبره على الفرار إلى غير رجعة، وأغلق مضيق عدن في وجه الأساطيل الاستعمارية.

الوحدة الإسلامية

شكّلت الخلافة التي تنال منها حملات التشويه من الصهاينة الجدد، آخر مظاهر الوحدة بين الأقطار المسلمة، وحققت في أضعف مراحلها ما عجزت أشباه الدول في أزهى أوضاعها عن الوصول إليه أو مقارعته.

400  عام من السيادة، تحولت فيها العاصمة الرومانية إلى مقر الحكم الإسلامي، وهو الواقع المشرف الذي تحطم بإعلان نهاية الخلافة الإسلامية، وهي الحقيقة التي وثقها الزعيم مصطفى كامل: “مخطط الإنجليز عمل على دعم معارضي الخلافة، التي كانت عدة شعوب تتطلّع إليها لمساندتها في كفاحها ضد الاستعمار البريطاني والفرنسي والروسي، وقد شملت هذه الشعوب المسلمين الهنود وتركمان آسيا الوسطى بالإضافة إلى شعوب شمال إفريقيا والمغرب العربي”.

وأضاف، في “المسألة الشرقية”: “أوعزوا إلى فئة من الدخلاء الذين لا وطن لهم ولا شرف ولا عقيدة، بالطعن على جلالة الخليفة الأكبر، والسلطان الأعظم، وتشويه أعمال الدولة العليّة وأحوالها”.

حماية الأمة

اللافت في حملة إمارات الشر، هو محاولة وصم العثمانيين، الذين تصدّوا لأشكال الاستعمار، بالمحتلين، وهو الاتهام الأقرب إلى طواغيت العرب الذي قادوا حملات التغريب وطمس الهوية، بينما الخلافة الإسلامية خاضت مئات المعارك للدفاع عن الأمة.

وتصدّت دولة الخلافة للحملات الصليبية على بلاد الإسلام، فصنعت أياما حاسمة لحقت بالحروب الأولى وانتصاراتها، مثل معركة كوسوفو 1389، ومعركة نيقوبوليس 1396، وفتح القسطنطينية 1453، وفتح قبرص 1571، والتوغل حتى أسوار فينا 1683، وحماية العالم العربي من الاحتلال طوال 400 قرون.

وأوقفت كافة الحملات الإسبانية والبرتغالية على الشمال الإفريقي والبحر الأحمر والخليج، عقب سقوط غرناطة 1492، ووصلت السفن العثمانية إلى الهند وإندونيسيا وماليزيا، وصنعت جسرا بحريا لإنقاذ 70 ألف مسلم من مذابح التفتيش، واستقبلت قرابة 7 ملايين مهاجر تركوا بلادهم في القوقاز والبلقان والشركس وكريت هربا من الإبادة العرقية، وأجهضت المد الشيعي ووارت دولة الصفويين التراب، والتي عادت لتستأسد الآن على السعودية والإمارات وتتمدد في العواصم العربية.

تكالب الخونة

ولم تضعف دفاعات العثمانيين في حروب الـ300 عام، إلا في القرن الأخير من عمر الخلافة بسقوط القرم تحت الاحتلال الروسي، والحملة الفرنسية على مصر سنة 1798، وشكل استقلال حكام الأقاليم عن مركزها المقدمة لوقوعهم في براثن الاستعمار كما حدث في مصر 1882، ومشايخ الخليج في أواخر القرن الـ19.

الحديث عن مناقب الدولة العثمانية، يحتاج إلى الرجوع إلى عشرات المجلدات، لإمبراطورية صنعت المجد وشكلت وحدة تجارية واحدة، وكانت الأقوى في العالم في القرن الـ16، وأقامت المشاريع التنمية أبرزها سكك حديد الحجاز وبغداد، وقادت ثورة معمارية لازالت آثارها شاهدة على عظمت تلك الحضارة، وحققت الاكتفاء الغذائي والصناعي الذاتي لسكان أقطارها.

وأرست قيم التعايش بين مكوناتها الأتراك، والأرمن، والعرب، واليهود، والمسيحيين، وقضت على دول الصفويين والبندقية وروسيا القيصرية، ودخل تحت ظل شجرتها الوارفة قرابة 100 مليون الإسلام، وأنجبت عثمان، ومراد، وبايزيد، والفاتح، والقانوني، وسليم الأول، وعبدالحميد، لتبقى غصة في حلق طواغيت التجزئة والتشرذم، ونقطة مضيئة في التاريخ الإسلامي.