مبادرات “التسويف” السياسي في ليبيا

- ‎فيمقالات

نجحت حملة “عاصفة السلام” التي شنتها قوات حكومة الوفاق الليبية وحررت بها ست مدن بالساحل الغربي ولا تزال تحاصر مدينة ترهونة وقاعدة الوطية؛ في إعادة الأزمة الليبية إلى بؤرة الأحداث العالمية لتنافس تداعيات كورونا في نشرات الأخبار. وتسببت الانتصارات الأخيرة لحكومة الوفاق ضد قوات حفتر في عودة نداءات التهدئة والتسوية السلمية للأزمة من قبل أطراف كانت تؤمن بالحل العسكري فقط للتخلص من حكومة الوفاق، وأطراف كانت قابلة لهذا الحل حتى لو لم تعلن ذلك.

خلال الأيام القليلة الماضية صدرت ثلاث دعوات للتهدئة والحل السياسي، كانت أولاها من الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو جوتيرش الذي دعا طرفي النزاع لوقف القتال والعودة إلى طاولة المفاوضات التي ترعاها المنظمة الدولية، والثاني من عقيلة صالح، رئيس برلمان طبرق التابع لخليفة حفتر، والثالث من وزراء خارجية الاتحاد الأوروبي الكبار.

قناعتي الشخصية أن الأزمة الليبية حتما ستنتهي بحل سياسي، وليس عسكريا كما يردد طرفا النزاع بين الحين والآخر. الحل السياسي فوق أنه أمنية، فهو تقرير لواقع لا يسمح بالحسم العسكري الكامل، حيث لا يمتلك أي طرف القوة العسكرية الكافية لهذا الحسم، كما أن العالم لن يسمح لأحد الطرفين بتحقيق نصر كاسح على غريمه، ناهيك عن الانقسام المجتمعي والقبلي القائم. ولكن الحل السياسي القادر على الصمود لا بد أن يكون عادلا وشاملا، وبضمانات إقليمية ودولية أيضا، وقبل ذلك مقبولا من الليبيين في الشرق والغرب والجنوب.

الانتصارات العسكرية الهشة لم تمكن حفتر من فرض إرادته من قبل، وهي لا تمكن حكومة الوفاق حتى الآن من فرض إرادتها كاملة أيضا، ربما تشهد الأيام المقبلة تطورات أخرى في ترهونة وقاعدة الوطية تفتح شهية الوفاق للتطهير الكامل، ولكن على الأرجح فإن هذا القدر من الانتصارات في الغرب الليبي لحكومة الوفاق وما قد يتبعه من انتصارات أخرى سيكون كفيلا بتحقيق تسوية سياسية حقيقية للأزمة؛ تحقن دماء الليبيين، وتحقق أهداف ثورة 17 فبراير في دولة مدنية، وحياة ديمقراطية، وتوزيع عادل للسلطة والثروة، وعودة الأمان والاستقرار إلى عموم ليبيا.

بالعودة إلى حديث الهدنة والتسويات، يبدو أن ظاهرها حتى الآن الرحمة وباطنها العذاب، فهي تدعو إلى وقف المعارك، والعودة إلى الحل السياسي، ولكن يبدو أنها مجرد خدع للتسويف السياسي وليس التسوية السياسية، وكسب الوقت لإنقاذ قوات حفتر من المزيد من الهزائم، لأن الحد الأدنى لإثبات جدية هذه المبادرات هو إعلان أصحابها العودة إلى اتفاق الصخيرات الذي تم في أواخر 2015 برعاية الأمم المتحدة، والذي انبثقت منه حكومة الوفاق، والذي كان يتضمن خارطة طريق واضحة لحل النزاع في ليبيا، وعودة الهدوء إلى البلاد.

في مبادرته التي وصفها البعض بخارطة طريق قدم رئيس برلمان طبرق عقيلة صالح خطة عمل من ثماني نقاط؛ تبدأ بإعادة هيكلة المجلس الرئاسي بحيث يضم ثلاثة شخصيات تمثل الأقاليم الليبية التاريخية الثلاثة (طرابلس وبرقة وفزان)، على أن يختار سكان كل إقليم ممثلهم بالتوافق أو عبر انتخابات تشرف عليها الأمم المتحدة، ويقوم هذا المجلس الرئاسي المصغر بتسمية رئيس وزراء ونائبين يمثلون الأقاليم الثلاثة أيضا، وفي نفس الوقت يصبح هذا المجلس الرئاسي الثلاثي مجتمعا بمثابة القائد الأعلى للقوات المسلحة، على أن تختار القوات المسلحة وزير الدفاع. ويشكل المجلس الرئاسي لجنة لصياغة دستور جديد تعقبه انتخابات رئاسية وبرلمانية، على أن يبقى برلمان طبرق الحالي في أداء عمله إلى حين انتخاب برلمان جديد، ولا يُسمح لأعضاء المجلس الرئاسي الترشح للانتخابات الرئاسية التالية..

عقيلة صالح صاحب هذه المبادرة سبق له أن رفض كل الوساطات والمبادرات السابقة، وهدد باستدعاء الجيش المصري لسحق حكومة الوفاق والدخول إلى طرابلس، وقد انسحب من مباحثات سياسية رعتها موسكو في كانون الثاني/ يناير الماضي، ولم يوقع على اتفاق لوقف إطلاق النار، وهرب بليل، رغم أن فايز السراج رئيس المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق وقع على الاتفاق. وبالتالي تفتقد مبادرته الجديدة للمصداقية، وتعتبر محاولة للتسويف وكسب الوقت، حتى يمكن لقوات حفتر إعادة ترتيب صفوفها، وتلقي المزيد من الدعم العسكري المصري والإماراتي والفرنسي وحتى الإسرائيلي.

كما أن مبادرته ترسخ لفكرة تقسيم ليبيا بين أقاليم ثلاثة، وفي الحد الأدنى تفتح الباب لفيدرالية هشة تتطور سريعا إلى تقسيم. فالحديث عن اختيار سكان كل إقليم لممثليهم بالتوافق بينهم أو بالانتخاب يرسخ فكرة الاستقلال، ويستوجب تحديد ملامح وحدود هذا الإقليم الذي ستجري فيه الانتخابات، وهو ما يفتح شهية دعاة الانفصال لاحقا للتحرك تجاه التقسيم بعد أن تحددت ملامح كل إقليم بشكل كامل، وبموافقة الأمم المتحدة التي يفترض أنها ستشرف على تلك الانتخابات.

كما أن هذه المبادرة حين تتحدث عن القوات المسلحة فإنها تعني بها قوات خليفة حفتر، وتستبعد منها قوات حكومة الوفاق، وبالتالي يصبح خليفة حفتر هو صاحب قرار تعيين وزير الدفاع، أي يظل ممسكا بمفاصل القوة العسكرية التي تمكنه من فرض إرادته على القرارات السياسية والاقتصادية والإدارية عموما، ما يعني أنه سيكون بمثابة المرشد الأعلى للجمهورية الليبية. وبينما تتحدث المبادرة عن إعادة هيكلة المجلس الرئاسي الحالي بدعوى انتهاء ولايته وفقا لاتفاق الصخيرات، فإنها تتجاهل أن مجلس نواب طبرق انتهت مدته أيضا.

أما وزراء خارجية فرنسا وألمانيا وإيطاليا الذين أصدروا بيانا مشتركا دعوا فيه لهدنة إنسانية في ليبيا، فإنهم ظلوا صامتين على انتهاكات خليفة حفتر لكل دعوات التهدئة ووقف القتال السابقة، بل ظلت فرنسا تقدم له الدعم العسكري المباشر، ورغم إنكارها ذلك، إلا أن قوات الوفاق ضبطتها في حالة تلبس مرتين على الأقل من قبل، أولاهما كانت في نيسان/ أبريل الماضي مع انطلاق حملة حفتر لغزو طرابلس، حيث هرب عدد من الجنود الفرنسيين عبر معبر رأس جدير التونسي، وقبض عليهم الأمن التونسي بأسلحتهم، وزعمت باريس أنهم كانوا حراسا للسفارة الفرنسية في طرابلس. أما المرة الثانية فكانت عندما غنمت قوات الوفاق في شهر تموز/ يوليو الماضي بعض الصواريخ من قوات حفتر؛ وتبين أنها مقدمة من فرنسا. وكان الأجدر بوزراء الخارجية الأوروبيين التأكيد على ضرورة احترام اتفاق الصخيرات الذي كانوا هم من رعاته.

على كل حال، فإن المعارك في ليبيا لم تنته بعد، والتغيرات السياسية والعسكرية لا تزال تتفاعل، حيث تقدمت قوات الوفاق المحاصرة لترهونة خطوة بقصف جوي ومدفعي لبعض المواقع داخل ترهونة، وهي التي كانت تكتفي بالحصار فقط طيلة الأيام الماضية لدفع قادة ترهونة للاستسلام دون قتال. كما أن قوات الوفاق ظلت حريصة على تجنب الاقتحام المباشر حتى تتجنب إسالة دماء وعمليات انتقام وتصفية حسابات واسعة. كما أن مدينة بني الوليد خرجت من حالة الحياد التي كانت تعلنها لتؤكد تبعيتها لحكومة الوفاق، وأعلنت مكونات الزنتان السياسية والاجتماعية أيضا رفضها لبيان خليفة حفتر الأخير، ودعمها لحكومة الوفاق وهو تطور مهم، وفي انتظار المزيد من التطورات خلال الأيام المقبلة قبل الدخول في أي تسوية سياسية شاملة.
نقلا عن “عربي 21”