كتب- أسامة حمدان:
امتلك الراحل العلامة الدكتور مصطفى محمود، رحمه الله، رؤية وتحليلاً وبصيرة وصفت بـ"الجبارة"، فقد تنبأ لعسكر تركيا بالسقوط في عام 1996م، مشددًا على أن الانقلابات العسكرية كلها سواء في الصعود والسقوط.
وربما تتشابه الأوضاع بين مصر وتركيا في خطوطها الرئيسية إبان فترة انقلاب العسكر، وتختلف في التفاصيل، إلا أن الحقيقة المجردة هي كما أكدها الدكتور "محمود" بقوله:" ومتى استطاعت قِلّة من العسكر أن تحكم أمّة إلى الأبد! ..لم يحدث هذا ولا في الخيال".
حدث في تركيا
كان الرابع من أبريل عام 2012 الماضي يوما مشهودا في تاريخ تركيا "المدني"، فقد بدأت محاكمة الجنرال كنعان إيفرين الرئيس التركي الأسبق وقائد الانقلاب العسكري الذي وقع في 12 سبتمبر من العام 1980 ، حيث أطاح بالحكومة المدنية وبقي إيفرين يقود تركيا بالحديد والنار حتى العام 1989.
وكانت الأعوام الثلاثة الأولى من حكم إيفرين الأكثر دموية واستبدادا فقد أُعدم خمسون شخصا وقُبض على ما يقرب من نصف مليون غيبوا في السجون وقُتل كثيرون منهم تحت التعذيب بينما اختفى آخرون إلى الآن.
وعن تلك الفترة الكريهة في تاريخ عسكر تركيا يقول الدكتور مصطفى محمود:" تركيا لا تمثل اتجاها واحدا ولا سياسة واحدة وإنما تركيا مزيج فوار غير متجانس من السياسات لم يتبلور بعد .. وتركيا" أربكان " غير تركيا " يلمظ "غير تركيا الجيش الحاكم غير تركيا " الشعب".
مؤكدًا: "لا أحد يستطيع أن يتنبأ بما سوف تؤول إليه الموازين السياسية في تركيا ورغم قبضة الجيش وتحكم العلمانية إلّا أن الاتجاه الإسلامي ممتد إلى الجذور والله وحده يعلم ماذا سوف يسفر عنه صراع القوى في هذا البلد الحبيب".
وتابع الدكتور محمود: "ولكن إحساسي أن تركيا لن تجد نفسها إلّا في العائلة الإسلامية وأنها في اللحظة الحاسمة لن تختار صف أعدائنا"، مضيفًا: "وعندما يجدّ الجد سوف تكون معنا لا علينا.. ولا أقول هذا الكلام من قبيل الأماني فليس في السياسة أمان.. وإنما أقوله بيقين أن هناك شيئاً اسمه نداء الجذور.. وهو نداء غلّاب لا يُقهَر.. يرد الإنسان في ساعة المحنة إلى أصله ويعود به إلى بيته".
مشددًا: "وأهل لا إله إلا الله لا تنفرط لهم وحدة لأنهم أمة الواحد ..يقول ربنا للمسلمين في جميع الأقطار: { إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} ومن ذا الذي يستطيع أن يردّ دعوة الواحد"!
خاتمًا بتلك النبوءة للعسكر في كل مكان: "والذين يعتقدون بأن الجيش الحاكم لن يسمح بهذه الردة نقول لهم: ومتى استطاعت قِلّة من العسكر أن تحكم أمّة إلى الأبد!.. لم يحدث هذا ولا في الخيال".
السيسي.. كنعان الثاني!
الجنرال السيسي في مصر لا يختلف في شيء عن الجنرال "كنعان" في تركيا، ذي البزة العسكرية الملطخة بدماء الشعب، والذاكرة المتخمة بجماجم الأبرياء الذين اغتالهم بالرصاص أو علقهم على أعواد المشانق.
يذكر الدكتور "مصطفى محمود" في كتابه (المؤامرة الكبرى) أن الضابط "خالد محيي الدين" اعترف في مذكراته، أن قائد انقلاب 1954 البكباشي جمال عبد الناصر طلب من أعضاء مجلس الثورة تكوين تنظيم سري للتخلص من الإخوان و الشيوعيين و طبقة الباشاوات الرجعية.
وعن عقلية الانقلاب العسكري، قال محيي الدين : "إن عبد الناصر كان ضد الديمقراطية على طول الخط وأنه هو الذي دبر الانفجارات الستة التي حدثت في الجامعة وفي جروبي وفي مخزن الصحافة بمحطة سكة حديد القاهرة وأنه اعترف لبغدادي وكمال حسين وحسن إبراهيم انه دبر هذه التفجيرات لإثارة مخاوف الناس من الديمقراطية وللإيحاء بأن الأمن سيهتز وأن الفوضى ستسود إذا مضوا في طريق الديمقراطية".
مضيفًا: "وأكثر من ذلك هو الذي نظم إضراب العمال الشهير في مارس 1954، وأنه هو الذي أنفق عليه وموله.. وذكر خالد محيي الدين أن عبد الناصر قال له بالحرف : هذا الإضراب كلفني أربعة آلاف جنيه (وهي تساوي بسعر اليوم تسعمائة ألف جنيه)".
وتعقيبًا على اعترافات "محيي الدين" يقول الدكتور مصطفى محمود:"بهذه العقلية التآمرية كان "عبد الناصر"، يدير شئون مصر ويفجر القنابل وينظم الإضرابات ثم يبحث عن متهمين وهميين يعلق في رقابهم التهم والشبهات، وتلك كانت حالنا أيام حكم العسكر وتلك اعترافاتهم ويُشكر الأخ خالد على أمانته وصدقه وضميره المحايد".
وبعد الانقلاب الذي جدد به "السيسي" دماء الأبرياء في شرايين سيده الهالك "عبد الناصر"، لم يتعظ أن محاكمة جنرالات الانقلاب في تركيا رسالة له ولكل ديكتاتور سيأتي بعده، ربما فات ميعادها إلى جنرالات العسكر في مصر، مفادها أن من يفلت اليوم من العقاب لن يفلت غدا، وأن هذا الجيل إذا تغاضى عن محاسبة الجنرالات عن أخطائهم وجرائمهم التي ارتكبوها في حق الشعب، سواء قبل الثورة المصرية أو بعدها، فربما يأتي جيل بعد عشر سنوات أو عشرين، أو ثلاثين كما حدث في تركيا الآن؛ ليحاكم ويحاسب.
ولن يفلت أحد حتى لو كان عمره أربعة وتسعين عاما مثل كنعان إيفرين أو … عبد الفتاح السيسي.
