كتب محمد مصباح:
وكأن الكوارث باتت قدرا على مصر في ظل عهد الانقلاب العسكري، الذي لا يشبع من الرز، سواء خارجيا أو داخليا، وعلى حساب البيئة أو الاقتصاد أو الوطن أو أراضيه.. بدءا من تيران وصنافير حتى الحدود المائية البحرية مع اليونان، وبيع محمية نبق أو التخلي على أجود الأراضي المصرية لمستثمرين أجانب بشرم الشيخ وبمناطق حيوية.. حتى بيع الغابة المتحجرة لمستثمرين مؤخرا.
حيث تستعد وزارة الإسكان لطرح 5 آلاف قطعة أرض بالقاهرة الجديدة، خلال مارس الجاري، للبيع للأفراد، بمنطقة "الغابة المتحجرة"، ذلك الأثر التاريخي المتميز، والمحمية الطبيعية الممتدة لمسافة 7 كيلومترات، التي تقع على بعد حوالي 2 كيلومتر مربع من مدينة الرحاب، و500 متر من عمارات "النرجس" بالتجمع الخامس، والجامعة الألمانية بالتجمع الثالث.
وفي سبيل تنفيذ ذلك دفعت الوزارة نحو 50 مليون جنيه لوزارة البيئة؛ استعدادًا لعملية الطرح التي تجري خلال شهر بالدولار للعاملين بالخارج، بما يعادل 6 آلاف جنيه للمتر، وتصل المساحات التي يتم طرحها إلى ما يقرب من ألف متر.
عدد كبير من سكان التجمع الخامس والمناطق المجاورة للغابة أبدوا رفضهم الشديد لفكرة طرح أراضي الدولة المسجلة بقرار مجلس الوزراء رقم 944 لسنة 1989 كمحمية طبيعية للبيع بالدولار، ووقفوا ضد تنفيذ مخطط “الإسكان” الجديد بطمس معالم ذلك الأثر الجيولوجي التاريخي.
ضد القانون
قبل عامين وافق مجلس الوزراء على قانون يقضي بإنشاء الهيئة العامة للمحميات الطبيعية، خاصة بعد تزايد الاعتداءات على تراث مصر الجيولوجي، وحدد القانون للهيئة الجديدة مجموعة من الاختصاصات الصارمة، منها وضع الضوابط والاشتراطات البيئية اللازمة لاستغلالها، ورسم السياسة العامة، وإعداد استراتيجيات التنمية الاقتصادية فى المحميات الطبيعية، ووضع الخطط اللازمة لصون النظم البيئية، وإدارة الموارد الطبيعية بعناصرها، بالتعاون مع مؤسسات الدولة والمجتمعات المحلية والقطاع الخاص ومنظمات المجتمع المدني والدولي.
كما جعل القانون الجديد جميع الأراضى الخاصة بالمحميات ملكًا خاصًّا للهيئة الجديدة، ولها وحدها حق التصرف فيها.
ووضع القانون عددًا من العقوبات الرادعة لأي اعتداء على المحميات الطبيعية وقتل وصيد الحيوانات وقطع النباتات، كما حظر جمع أو حيازة أو نقل أو تجارة الحفريات بأنواعها الحيوانية أو النباتية أو تغيير معالمها أو تدمير التراكيب الجيولوجية أو الظواهر البيئية المميزة لها أو المساس بمستواها الجمالي بمناطق المحميات الطبيعية.
ومن يرتكب مثل هذه الأفعال المخالفة للقانون يعاقب بالحبس مدة لا تقل عن خمس سنوات، ولا تزيد على سبع سنوات، وبالغرامة التي لا تقل عن مليونى جنيه، ولا تزيد على خمسة ملايين جنيه، أو بإحدى العقوبتين.
جاءت تلك التشريعات الجديدة لمواجهة الأفعال غير القانونية التي تغير من خصائص المحميات الطبيعية وتكويناتها الجيولوجية أو الجغرافية، أو تشوه من طبيعتها، أو تدهور مواردها، سواء باستنزافها أو تلويثها، أو تنال من قيمتها الجمالية أو الثقافية، أو تضر بحيواناتها أو نباتاتها، أو تحول دون تكاثرها، أو تدخل فيها من الأجناس ما يكون غريبًا عنها.
الغابة الخشبية
سور حجري متهالك ومتكسر على طول طريق (القطامية– السخنة) شرق القاهرة، تعلوه لافتة باهتة متآكلة، لا يظهر منها سوى كلمتين مطموستي المعالم «الغابة المتحجرة»، التي تحتوي على عشرات الأشجار المتحجرة العريقة، وأسفل تلك الكلمتين مكتوب باللغتين العربية والأجنبية “لا تأخذ شيئًا، لا تترك شيئًا”.
ورغم أن المحمية تتبع وزارة البيئة، إلا أنها تحوَّلت بفعل فاعل إلى مقلب لمخلفات البناء، وتتم سرقة الأشجار المتحجرة منها منذ وقت طويل، فضلًا عن تسلل الخارجين على القانون ومتعاطي المخدرات بلا رقيب أو حساب.
ويطلق الأهالي عليها “غابة الرعب” و”الغابة الخشبية”، أو “جبل الخشب”، وبها جذوع عديدة من الأشجار المتحجرة التى تتراوح أطوالها بين 15- 25 مترًا بشكل أفقي، وتنتشر بكثافة.
ويرجح رئيس هيئة المساحة الجيولوجية الأسبق، أحمد عبد الحليم حسن، أنها جُرفت بسبب فيضان النيل، لقرب أحد فروع النيل من الموقع، واستقرَّت به، وبمرور الزمن حدث “الإطماء”، وتحجَّرت، وذلك منذ ملايين السنين، أو تكونت فى العصر المطير، وتعتبر شاهدًا عليه، حسبما ذكر الدكتور جمال حمدان، في كتاباته عن شخصية مصر، والدكتور رشدى سعيد، أحد أهم علماء الجيولوجيا في القرن العشرين.
محمية طبيعية مهدرة
وتم تسجيل جزء ضئيل من هذا الموقع الجيولوجي الأبرز فى مصر، ويبلغ نحو 6 كيلومترات، وذلك فى عام 1989، طبقًا لقانون المحميات الطبيعية رقم 102 لسنة 1983، فى حين تم إهدار باقي المساحة الجغرافية المهمة والممتدة لعدة كيلومترات في اتجاه الطريق الدائري، لإنشاء منتجعات سكنية في نطاقها، مثل عمارات النرجس ومدينة الرحاب وبيت الوطن وغيرها.
وخلال الآونة الأخيرة تجاهلت وزارتا البيئة والآثار أهمية الموقع الذى يؤرّخ لتاريخ مصر الجيولوجي، كما أنه يعتبر كنزًا جيولوجيًّا للباحثين والمتخصصين، وكذلك الهواة والمهتمين بالسياحة الطبيعية. ليس هذا فحسب، بل إن الحكومة حينما قررت فى أواخر الثمانينيات إنشاء هذه التجمعات السكنية لم تحاول أن تستغل الموقع، حسبما قالت الدكتورة غادة فاروق حسن، أستاذ التصميم العمراني بجامعة عين شمس، فأهملته تمامًا، وطمسته، وضيّعت ملامحه الجمالية، حتى الجزء الذي تم تسجيله لم تسعَ لحمايته، وانتهكت قوانين البيئة.
عصابات تبيع رمال الغابة بـ80 ألف جنيه في الليلة
الكارثة الأكبر – بحسب الأهالي – هي احتلال عصابات العرب ومجموعات من البدو للغابة بعد منتصف الليل في غياب الأمن والحراسات، وهرس الحفريات وطحنها وتحويلها إلى رمال، وبيعها بمبالغ تتراوح بين (80-100) ألف جنيه كل ليلة.
حاميها حراميها
واليوم تطرح الحكومة مساحات واسعة من أراضي الغابة المتحجرة للبيع والاستثمار والبناء عليها، بما يقرب من 1200 متر طولًا و500 متر عمقًا؛ بدعوى تطوير تلك المساحات الواسعة – بحسب مصادر من وزارة البيئة -وتطهير المنطقة من البلطجية، وتوفير شركات حراسة لها، وإقامة سور كبير عليها، بالإضافة إلى إقامة معرض جيولوجي يتضمن صورًا نادرة للغابات المتحجرة وتاريخ المنطقة.
وهو ما رفضه جموع المواطنين هناك وخبراء البيئة وعلماء الجيولوجيا، حيث قال أسامة السعدني في تصريحات صخفية، "الأرض دي مش ملك حد، عشان تتباع فيلل ومساكن، ولازم تتعمل متحف ومزار سياحي".
وأضاف أن هناك عصابات منظمة من العرب تحتل الغابة طوال الليل حتى شروق الشمس من أجل الاتجار في رمال المحمية الطبيعية، حيث تتراوح قيمة الحمولة الواحدة البالغة 10 أمتار من (250 – 300) جنيه، ويوجد هناك ما يقرب من 20 سيارة نقل مخصصة لبيع الرمال للسكان الجدد في ظل غياب الأمن والحراسة عن الغابة منذ أكثر من 4 شهور.
وأكد الأهالي أن الحكومة عليها أن تطلع على تجارب الدول الأخرى لحفظ تراثها وكيفية استغلال كنوزها الطبيعية وحمايتها بدلًا من إهماله؛ تمهيدًا لطرح أرض المحمية للبيع كبنايات عقارية ومشاريع سكنية.
واقترح السكان إنشاء منطقة صناعية مجاورة للمحمية من ناحية، ومن الناحية الأخرى إقامة محطة للصرف الصحي؛ حتى لا يندثر ذلك الكنز الجيولوجي العريق، ويختفي تراث مصر الفريد بين الأبراج والعقارات السكنية الشاهقة.
جريمة تاريخية
ومن جانبه قال الخبير الجيولوجي الدكتور خالد عودة، أستاذ الطبقات والحفريات في كلية العلوم بجامعة أسيوط، إن طرح أرض الغابة المتحجرة للبيع جريمة تاريخية، يعاقب عليها القانون بالسجن المشدد، ولن تسقط بالتقادم، خاصة أنها مسجلة كمحمية طبيعية منذ عام 1989، ومن ثم فلا يحق لأحد أيًّا كان التفريط أو الاتجار فيها بأي حال من الأحوال.
وأضاف أن الغابة تحتوي على سلالات نادرة جدًّا من الأشجار، التي يمكن تحويلها إلى مزار سياحي، خاصة أن عمرها يزيد على مئات السنين، بدلًا من تبديد أراضيها وطرحها للبيع كقطع أراضٍ للبناء وتحويلها إلى كتل خرسانية مسلحة.
وترجع أهمية المكان بحسب عودة إلى أنه يحتوي على المئات من غصون الأشجار النادرة، التي تحولت إلى حفريات أو حجارة؛ نتيجة تعرضها للرسوبيات والتعرية وعوامل الزمن، ولا تزال محتفظة بأشكالها القديمة التي كانت عليها، وكانت تنظم للمحمية رحلات وأفواج سياحية للتخييم بها من داخل مصر وخارجها برعاية وزارة البيئة؛ للتعرف على تاريخ تلك الغابة وما تحتويه من أشجار وحفريات في نهار اليوم، وكذلك الرصد الفلكي للنجوم والمجرات.
خيانة عظمى
فيما وصف ممدوح حمزة، الاستشاري الهندسي، أنباء طرح أراضي الغابة المتحجرة للبيع، بـ
"صدمة كبيرة وخيانة عظمى.. للأسف الحكومة فلست ومش لاقية تاكل وابتدت تبيع أعز ما نملك"، مضيفا في تصريحات صحفية، " وصلنا إلى مرحلة الضياع الكامل الذي يهدد تاريخ مصر".
مشددا على أن ما يحدث خراب وخسارة كبرى لتاريخ وحاضر ومستقبل هذا الوطن الكبير، واصفًا أن ما تفعله الحكومة من بيع محمياتنا الطبيعية، كجزيرتي تيران وصنافير بالبحر الأحمر، و”نبق” بشرم الشيخ، وصولًا للغابة المتحجرة بالقاهرة الجديدة، امتداد لما فعله بعض الفلسطينين من قبل حينما باعوا أراضيهم تحت وطأة الاحتلال، وما زالوا يبحثون عن أرضهم حتى اليوم.