بين الحين والآخر تعلن هيئة الرقابة الإدارية، الجناح الهجومي لسلطات الانقلاب العسكري في تصفية كل المتمردين والمغضوب عليهم، عن ضبط عدد من الموظفين متلبسين برشاوى كبيرة، تسويقا لمزاعم “الحرب على الفساد” التي يسعى السيسي إلى ترسيخها في أذهان المصريين، من أجل التخلص من أركان الدولة العميقة لنظام المخلوع حسني مبارك، وإنشاء نظام السيسي الجديد.
وقامت هيئة الرقابة الإدارية مؤخرا، بالكشف عن العديد من المخالفات والقضايا، حيث أعلنت خلال تقرير نشرته صحيفة “الأهرام” عن تحقيق عائد مادى للدولة بلغ نحو 379 مليون جنيه، وكذلك 451 مليونا عائدا ماديا متوقعا بعد استكمال الاجراءات وتصويب المخالفات.
وقالت إنها تمكنت من استبعاد أسر غير مستحقة للدعم المادى أو المقررات التموينية، مما نتج عنه تحقيق وفر مادى للدولة نحو 2.81 مليار جنيه، كما قامت بتنفيذ (42) قضية جنائية مباشرة، وتم عرض 124 متهما من خلالهم على النيابات المختلفة، بالإضافة إلى مواجهة انحراف 141 موظفا عاماً.
كما أعلنت ضبط أحد موظفى مكتب التأمينات التابع للهيئة القومية للتأمينات الاجتماعية ورئيس خزينة المكتب وسيدتين بالاستيلاء على 13.5 مليون جنيه من حساب المكتب بأحد البنوك عن طريق استخدام توكيلات مصطنعة والتلاعب فى قيمة الشيكات. وكذلك استيلاء موظف سابق بالضرائب وآخرين على قطعة أرض مملوكة للإصلاح الزراعى مساحتها 18 ألف متر بالجيزة وتبلغ قيمتها 367 مليون جنيه بموجب توكيلات مصطنعة، عن طريق التواطؤ مع باحث بمصلحة الشهر العقاري.
وضبط مهندس مشروعات بجمعية إسكان بالسويس، لحصوله على 100 ألف جنيه رشوة من من صاحب شركة توريدات، نظير قيامه بإنهاء إجراءات تخصيص قطعتى أرض بطريق السويس ـ العين السخنة، كما تم ضبط محام حر ومستشار قانونى بجمعية تعاونية بكفر الشيخ تحصلا على 125 ألف جنيه رشوة من سيدة لإنهاء إجراءات إصدار عقد ملكية قطعة أرض من الجمعية لصالحها بدون وجه حق، وضبط محاسب بإحدى شركات توزيع الكهرباء بمدن القناة لحصوله على 100 ألف جنيه رشوة من مدير كافيتريا، مقابل عدم تحرير محضر سرقة تيار كهربائي، وتسليمه العداد الخاص بالكافيتريا والذى سبق وتم رفعه، وضبط رئيس مجلس إدارة النقابة الفرعية للعاملين بإسعاف الإسكندرية باصطناع استمارات شراء سلع معمرة من إحدى الشركات، للاستيلاء على قيمة تلك المشتريات والتربح من بيعها بنحو 33 مليون جنيه.
أيضا استيلاء بعض أمناء العهدة التابعين للشركة العامة لتجارة الجملة بكفر الشيخ على سلع تموينية مدعمة بـ 723 ألف جنيه وبيعها فى السوق السوداء لحسابهم بدون وجه حق.
وغير ذلك الكثير من القضايا التي تكشف عنها الرقابة الإدارية بشكل مفاجيء، وتهلل لها صحف الانقلاب بزعم محاربة دولة الانقلاب للفساد، في الوقت الذي يغلق نظام الانقلاب التحقيق ويحظر النشر في أي قضية مليارية دون أن يعرف أحد أسباب حظر النشر أو مصير القضايا.
يد “عبد الناصر” الباطشة
نقل موقع “ميدان” التابع لشبكة “الجزيرة” عن باحثين أن ما جرى كان “حرب بيروقراطيات” بين جناحي “الجيش” و”الرئاسة” في صراعهم على الدولة، وأن “البيروقراطية العسكرية” استطاعت فرض هيمنتها على البيروقراطيات الأخرى، وفي خضم ذلك خلقت “المعارك” مشاعر بُغض عميق في وسط البيروقراطيات المصرية رافقها نشاطات أسفرت عن تعطيل الأعمال وتشويه السمعات.
وضرب الباحثون مثلا بكبح جماح مجموعة عبد الحكيم عامر من جانب جمال عبد الناصر حينما أصدر قرارا عام 1964 بإنشاء “هيئة الرقابة الإدارية” كجهاز رقابي مستقل تابع لرئاسة الوزراء لمحاربة الفساد داخل الجهاز الحكومي في الدولة، لكن ما كان جهازا تابعا في الظاهر لرئاسة الوزراء ولغرض محاربة الفساد، كان في الحقيقة يد عبد الناصر وعينه داخل الجهاز البيروقراطي المدني في الدولة المصرية، وكان الجهاز يعيد موازين القوى إلى نصابها أمام “بيروقراطية العسكر” بقيادة عبد الحكيم وجماعته في إطار “الصراع” على النفوذ والسلطة في مصر.
وحرص عبد الناصر وخلفاؤه أن يكون رؤساء الهيئة وأعضاؤها من رجال الجيش والمخابرات ولاحقا من ضباط الشرطة، فكان اللواء “كمال الغر” القادم من المخابرات العامة أول رئيس للهيئة وربما أطولهم حيث مكث في منصبه 14 عاما متواصلة، حظي فيها بثقة عبد الناصر، وبفترة طويلة على ثقة السادات.
أزعجت السادات
وظلت الهيئة تعمل وفق ما نصّ عليه قانون إنشائها حتى فتحت تحقيقات موسعة في عصر السادات، في قضية عُرفت باسم “عصمت السادات ورشاد عثمان”، ابن شقيق الرئيس، وهو ما أزعج السادات وقتها، فقرر نقل رئيس الهيئة كمال الغر سنة 1978 للمجالس القومية المتخصصة، وحُلّت الهيئة بعد عامين من هذا القرار، وجمد نشاطها في عام 1980، ثم وُزعت ملفات القضايا بالهيئة على الشرطة العسكرية ومباحث أمن الدولة، وفُرمت الكثير من أوراق وأدلة الفساد.
وعندما تولى حسني مبارك الحكم، أصدر قرارا عام 1982 بإعادة تشكيل الهيئة وتعيين اللواء محمود عبد الله، ونقل مقرها من الجيزة بالدقي، إلى المبنى الحالي للهيئة في منطقة الجولف في مدينة نصر، وكانت أول قضية فتحتها الهيئة وقتها هي قضية عصمت السادات وأبنائه، وعلاقاته برشاد عثمان، والتي انتهت بحبسه وبمصادرة أملاكه.
وظلت هيئة الرقابة الإدارية في ظل حكم مبارك وسيلة لترهيب المعارضين ومعاقبتهم، والسيطرة على مؤيّدي النظام، وكان بالإمكان أيضا كبح جماحها عندما تُهدّد تحقيقاتها السياسيين أو رجال الأعمال المقربين من الرئيس، ففي العام 1996م استُبدل رئيسها اللواء أحمد عبد الرحمن بعد إصراره على متابعة التحقيق في قضية فساد ضد وزير الإسكان وقتها إبراهيم سليمان، وكان بديله اللواء هتلر طنطاوي أكثر إذعانا على ما يبدو، حيث جدّد له مبارك ثلاث مرات، وبعد تقاعد طنطاوي في 2004م، نشرت اتهامات بأنه استغل منصبه للحصول على عدد من الأملاك، وقد خلفه في رئاسة الهيئة اللواء محمد فريد التهامي الرجل الذي ولاه السيسي في بداية انقلابه رئاسة المخابرات العامة، واللافت أن مبارك جدّد للتهامي أربع مرات منذ أن انتهى تعيينه الأصلي في العام 2008م، كان آخرها من جانب المشير طنطاوي رئيس المجلس العسكري الحاكم بعد الثورة في ديسمبر 2011م.
وحين اختير الدكتور محمد مرسي رئيسا للجمهورية في يونيو 2012 اهتم بالجهاز، وتمكن أحد ضباط هيئة الرقابة الإدارية وهو المقدم معتصم فتحي أن يقدم أدلة على فساد رئيسها الأسبق اللواء محمد فريد التهامي لرئاسة الجمهورية، فضلا عن تفجيره قضية “القصور الرئاسية” التي تورط فيها مبارك ونجلاه، وقد أكّدت بعض الجهات الرقابية الأخرى صحة هذه الاتهامات بالفعل، فأصدر الرئيس محمد مرسي قرارا بعزل التهامي من وظيفته وتعيين اللواء محمد عمر هيبة مكانه، لكن سرعان ما أقاله السيسي بعد الانقلاب العسكري ليعين اللواء محمد عرفان جمال الدين ثم يقيله بالمخالفة للدستور، ويُعيّن من بعده اللواء شريف سيف الدين الرئيس الحالي للهيئة، وأصر على أن يعين اللواء “التهامي” المتهم بالفساد في منصب رئيس المخابرات العامة ثم أقاله بعد ذلك!
اهتمام مثير للريبة
وأعاد السيسي الاهتمام بشكل مبالغ بهيئة الرقابة الإدارية ربما أكثر من الرؤساء الذين سبقوه، ففي دستور 2014م جاء تعديل جوهري جعل الهيئة كيانا مستقلاً تابعا لرئيس الجمهورية مباشرة بعدما كانت تابعة لرئيس الوزراء، ثم كانت الخطوة الأكبر في العام 2017 حين أصدر قائد الانقلاب القانون رقم 207 لإضافة اختصاصات أخرى لعمل هيئة الرقابة الإدارية منها مكافحة الاتجار في البشر، والأعضاء البشرية، لكن اللافت أن هذا القانون أضاف اختصاصا جديدا ومهما لعمل الهيئة جعلها قريبة الشبه من بعض اختصاصات جهاز المخابرات العامة تحديدا؛ حين شرّع التعاون والتنسيق وتبادل الخبرات والوثائق والمعلومات مع الهيئات والأجهزة الرقابية المختصة بمكافحة الفساد في الخارج، وبهذا توسّعت صلاحيات الهيئة من مراقبة ومكافحة الفساد في الداخل إلى كل ما يخص الجهاز الإداري للدولة المصرية ولو كان خارجا، ثم جعل الاتصال اليومي بالأجهزة الرقابية والمعلوماتية الأخرى مفتوحا ومشرعا ومفروضا.
وكان من اللافت تسليط الإعلام الضوء على عمل جهاز الرقابة الإدارية، مسندا لأعضاء الجهاز بطولات واسعة، في الكشف عن قضايا فساد لكبار المسؤولين، وكانت الضربة الأكثر قوة ولفتا للانتباه من هيئة الرقابة القبض على وزير الزراعة الأسبق صلاح هلال في ميدان التحرير بعد خروجه من رئاسة الوزراء في سبتمبر 2015، ثم القبض على محافظ حلوان الأسبق في مارس 2017م، ثم محافظ المنوفية السابق في يناير 2018 بتهم رشوة وفساد.
وتغلغلت أذرع السيسي الأمنية والرقابية لتصنع واقعا جديدا يُراد منه الدوام والاستمرار، واقع لا يهتم بإخضاع المواطنين فقط، بل وإخضاع الجهاز البيروقراطي الضخم الذي شارك بنصيب وافر في قمع وإجهاض الثورة المصرية.