نستكمل هنا شيئا من معاني المعارك التي خاضها النبي- صلى الله عليه وسلم- في رمضان، ونحاول ربط ما نفهمه منها بما تمر به أمتنا من محن راهنة. تحدثنا في المقال السابق عن “الزمن” و”الشوكة”، والآن نمر سريعا علي ثلاثة ملامح أخرى.
* الصورة الذهنية
عندما أدرك “أبو سفيان” أن قافلة المشركين أصبحت في أمان قبيل وقوع معركة بدر، أرسل إليهم يقول: “إنما خرجتم لتمنعوا عيركم ورجالكم، وأموالكم، وقد نجاها الله، فارجعوا. فقال أبو جهل: “والله لا نرجع حتى نرد بدرًا، فنقيم ثلاثا، ننحر الجزور، ونطعم الطعام، ونسقي الخمر، وتعزف علينا القيان، وتسمع بنا العرب، وبسيرنا وجمعنا، فلا يزالون يهابوننا أبدا” [فقه السيرة:ص 196]، وقبيل تبوك كانت الأنباء قد ترامت أن الروم قد بدءوا التأهب لضرب المسلمين واستئصال شأفتهم تماما، وقد جمعوا لذلك جيشًا قوامه نحو مئتي ألف جندي مدججين بالسلاح، وذلك حتى يكون مشهد الجيش وحده كفيلا بإنهاء المعركة، والتي كانوا يتوقعون أنها ليست أكثر من نزهة لهم، خاصة أن اسم كبيرهم “هرقل” وحده كان يثير الخوف والفزع في قلوب العرب قبل ذلك.
إنها حرب “إثارة الرعب” وصناعة “الصورة الذهنية”، التي يقع عليها عبء كبير في كسب المعارك والمواجهات، حاول “أبو جهل” أن يترك أثر فخرٍ ونصرٍ في قلوب العرب حين عادت القافلة دون أن يصيبها شيء، أدرك أن الأثر النفسي قد يوفر الكثير من المعارك، والتي ربما يكسبها البعض من جراء مهابة الآخرين له، أو تحسبهم لما يظنونه فيه، حتى وإن كان لا يملكه بالفعل، مثله فعل “الروم” فجهزوا جيشا لم تكن العرب قد اعتادت الحرب بمثله من قبل، ولذا فقد كان من الحكمة قبول المسلمين بالمواجهة في الحالين؛ لأن تفتيت قوة الخصم اقتضت تفريغه في الأساس مما حاول صناعته من صورة ذهنية، فانقلب الأمر إلى العكس تماما، وانتصر الجيش البدري رغم قلة العدد والعدة، وعاد جيش تبوك بلا قتال لما استشعروه هم من الرعب من المسلمين.
الحقيقة أن خصوم الحق دائمًا ضعفاء حتى وإن امتلكوا القوة المادية؛ لأن فراغهم من معاني الخير والسمو يجعل منهم تماثيل، وإن بدت ضخمة مفزعة إلا أنها خاوية خربة يسهل كسرها. وإنما معول الكسر الأول هو استتباب تحصيل معاني الخيرية في الأنفس، وما تبقي بعد ذلك يأتي بشيء من الروية والتفكير وبعض التخطيط الذي يسبقه تدبير الله تعالي والتوكل عليه.
يعنينا هنا أن ندرك أن البعض في المواجهات المصيرية يظن عن الخصم أكثر مما يعلم عنه، فلا نتحدث هنا عن المعلومات التي تفيد أصحاب القرار في التخطيط الإستراتيجي، ولكنها الصناعة النفسية التي قد تجعل البعض يحجم عن إعلان رفضه للمظالم أو اتخاذه موقفا مؤيدا للحق خشية أو مهابة مما يظن خصمه عليه من إمكانيات وبواطن قوة.
فإذا نظر الفرد إلى نفسه على أنه في يسير في طريق أول نقطة فيه هي اختيار برفض الهزيمة وبتسمية الأمور بمسمياتها، مع الإصرار على العمل الدوؤب، كانوا هؤلاء جميعا أهم ما في المعركة وأخطر ما يمكن هزيمته ودفعه، وحينها فمهما مر من الوقت، أو كان الطريق طويلا أو شاقا، فطالما أن الهزيمة والفشل لم يعلنا فلا بأس من السير ومن التفكير تلو التفكير أو حتى من تغيير الخطط والأساليب.. فالكيان الصهيوني يظل غاصبا ومحتلا، حتى وإن مرت على النكبة ما يزيد على سبعين عاما، لكن القرار بعدم أحقيته في الأرض أو في التاريخ، كان وما يزال أغلى ما نملك، وكذلك فرغم مرور خمس سنوات على الانقلاب في مصر، فطريق النصر قد بدأ منذ اللحظة الأولى بتسميته انقلابا، وعدم الاعتراف له بالشرعية أو بالحكم. فهذه المواقف في حد ذاتها هي بمثابة كسر للصورة الذهنية التي يحاول تكريسها هذا أو ذاك فيسقط في شباكها ذوو القلوب الضعيفة أو الهمم المنخفضة..إن أول وأهم آليات مواجهة حرب الصور الذهنية، هو ألا تتركها تفت في عضدك أو تتملك قلبك فتسلبه الطمأنينة والثقة واليقين، وتحيلك خائفا وجلا تبحث عن جوار حائط حتى لا تسير أبعد منه.
لقد وثقت المنظمات الحقوقية ما تفعله مقرات تعذيب ما يسمى بـ”أمن الدولة” في مصر، فبخلاف التعذيب الجسدي المكثف، هناك التعذيب النفسي بالرعب وبما يطلق عليه “الصدمة” حيث يتعمدون إثارة كافة نوازع الخوف والقلق والترقب لدى المعتقل، في حين يحكي الكثير من الشباب الناجين من هناك أنه ومع بعض الصمود واليقين بالله يذوب أثر هذا التهديد وينزوي بعيدًا.
* لا تقلق
نعم.. فمهما كان الخطب الذي أنت عليه الآن، ومهما كانت التحديات، فهناك يوم عما قريب سوف تتبدل تلك الهموم أفراحا من حيث لا تحتسب، لكن الأهم أن تتعود أن تعيش الفرح والأمل في كل لحظة مهما كانت قساوتها الظاهرة، فبالحق طاقة أمل ونهار دائم؛ لا ينبغي على أصحاب البصيرة أن يتخلفوا عن مرآها، فلا تحجبهم عنها كثرة المتشككين أو المحبطين، فها هو الجيش قليل العدد والعدة والذي كان في “بدر”-أي في العام الثاني للهجرة- ثلاثمائة وبضعة عشر رجلاً، بعد ست سنوات فقط تحول هذا الجيش إلى قرابة عشرة آلاف مقاتل إبان فتح مكة عام 8 للهجرة، وبعد عام واحد من الفتح، كان الجيش العائد من تبوك والذي كان على وشك مجابهة جحافل الروم، قوامه نحو ثلاثين ألفا، أي أن سبعة أعوام فقط قد ضاعفت جيش بدر بنحو مائة مرة.
* التحديات لا تنتهي
وختاما فلا يمكننا أن نقول إن هناك ختاما؛ فبعد أن كان التحدي أمام دولة الإسلام في أول عهدها هو تلك العصبة من قريش التي تقف لها بالمرصاد؛ إلا أن الأمر لم يقف عند هذا الحد، فالطريق منذ بدر إلى تبوك كان مليئا بالأحزاب واليهود والمنافقين والقبائل الأخرى، ثم العرب في الجوار، هذا إلى أن نصل إلى “الروم” وأقاصي الشمال. وهكذا فالتحديات والصعاب أمام الحق لا تنتهي، والنصر ليس هو نقطة خاتمة ويبدأ عهد الراحة والدعة، بل هو نقطة تلو أخرى إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، فلنهيئ أنفسنا على العمل المستمر، فالذي يختلف فقط هو طبيعة الميدان ووجه الخصم وآليات ووسائل المواجهة المحتمة له.