نكبتنا في الصديقة الرخيصة

- ‎فيمقالات

 

بقلم: وائل قنديل

 

في غابر الأيام، كانت مصر تسمح بفعالياتٍ متواضعةٍ لإحياء ذكرى النكبة، ذرّاً للرماد في العيون التي تدمع على تحول "الشقيقة الكبرى" إلى محض "صديقة رخيصة" للعدو الصهيوني.

 

كانت مظاهر إحياء الذكرى تنحصر في تظاهرةٍ للطلاب، تسمح بها إدارة الجامعة، مضطرةً، أو ندوة سرية في المجلس الأعلى للثقافة، أو مؤتمر في مقر حزب معارض، أو وثائقي يُذاع في أوقات عرض ميتة.

 

الآن، لم تعد مصر السيسية تتمتع بوضعية "الصديقة الرخيصة"، بعد أن انحدرت إلى مرتبةٍ أدنى بكثير، تلخصها تصريحات جنرالاتٍ وحاخاماتٍ، يتحدّثون عنها باعتبارها واحدة من أراضي المستعمرات تحت التاج الإسرائيلي، ومن ثم لم يبق ممكناً أن يرتدي شاب "الحطة الفلسطينية"، ويسير في الشوارع، أو يذهب إلى جامعته ويعود إلى بيته، إذ تكون عودته غالباً إلى زنزانةٍ صغيرة، مثل الزنازين التي تؤوي عشرات الآلاف مثله.

 

ليست مصادفةً أن "الكوفية الفلسطينية" تأتي دائماً ضمن الأحراز التي تحتويها محاضر الشرطة، عند القبض على الناشطين المعارضين، من أول محمد عادل، أحد قيادات حركة السادس من أبريل، الذي يقبع في سجون النظام منذ أكثر من عامين، والذي لم ينس كاتب محضر اعتقاله أن يبرز من بين المضبوطات الخطيرة بحوزته "كوفية فلسطينية عليها شعار حماس"، وليس انتهاء بأحد قيادات الاشتراكيين الثوريين، والذي نادراً ما تفارقه الحطة الفلسطينية.

 

لم يعد مسموحاً بالكوفية، أو الحطة، لم يعد مقبولاً تذكّر الأرض في يوم نكبة ضياعها، فلم الدهشة من الأحكام المغلظة على متظاهري يوم الأرض، بالسجن مدداً تصل إلى الخمس سنوات؟.

 

في زمن فات، كان الشاب يداري عجزه عن فعل شيء لفلسطين والقدس، بكوفيةٍ فلسطينية، وكانت السلطات تتركه يمر ويهتف، كي يستر بالكوفية عورات أنظمةٍ عربية، تمضي نهارها في الهتاف المحتدم للقضية، ثم تتسلّل، ليلاً، على أطراف أصابعها للمبيت في حضن واشنطن وتل أبيب.

 

الآن، مات الهتاف في الحناجر، بل سيقت الحناجر إلى غياهب السجون، فيما لا تكف ذكرى النكبة عن جلدنا على ظهور الذاكرة، ففي يوم "الكربلاء العربية" على ضياع أرض فلسطين، قبل 68 عاماً، يأبى قضاء عبد الفتاح السيسي إلا أن يشارك الصهاينة أفراحهم باغتصاب الأرض، فيعاقب نحو 151 شاباً مصريا بالسجن المشدّد، عقاباً لهم على التظاهر رفضاً لبيع الأرض، كما جرى في جزيرتي تيران وصنافير.

 

لا يريد التاريخ، بدهائه، وخسّته أحياناً، أن يرحمنا أبداً: في الرابع عشر من مايو/ أيار 2016 يحكم قضاء عبد الفتاح السيسي بمعاقبة كل الذين دافعوا عن الأرض، في يوم التظاهرات الحاشدة ضد بيع الجزيرتين المصريتين.

 

وفي الساعة الرابعة بعد الظهر من 14 مايو/ أيار 1948، أعلن المجلس اليهودي الصهيوني في تل أبيب أن قيام دولة إسرائيل سيصبح ساري المفعول، في منتصف الليل، ليعلن الرئيس الأميركي، هاري ترومان، الاعتراف بإسرائيل، بعد إعلانها ببضع دقائق.

 

فقدت الأرض قدسيتها، ولّى زمن "الأرض عرض"، وصارت الأرض لا تساوي أكثر من فرصة واعدة لاستثمار سياحي، وسياحي، مضمون، تُهْدى، وتُباع، ما دام في ذلك دعم لفرص بقاء الحاكم، الحارق للتاريخ وللجغرافيا وللمعنى ذاته.. تلك هي الرسالة، في يوم كان للبكاء على ضياع الأرض، فصار للبكاء على الشهداء الأحياء الذين يُساقون إلى القبور والسجون، عقاباً على رفضهم التفريط في الأرض.

 

في ذكرى النكبة، يرتسم الشارب في وجه صهيب عماد الذي دخل المعتقل متوسداً طفولته، ففاجأته، وفاجأت ذويه، علامات الرجولة، فيما كان السجّانون يحتفلون بصفقة ترسيم الحدود، واقتطاع قطعتين من لحم الوطن.

 

الآن صار بمقدور أفيخاي أدرعي أن يتحرّك على الرحب والسعة على شواطئ سيناء، والساحل الشمالي، فيما تشوي حرارة الزنازين جلود ثوار الأرض.. ولم لا، وهناك من يعبث، ويفصل مناهج تاريخ وجغرافيا الوطن العربي، على مقاس إسرائيل، ويموّل انتخابات صقورها وحمائمها على السواء؟!

المقالات لا تعبر عن رأي بوابة الحرية والعدالة وإنما تعبر فقط عن آراء كاتبيها