إذا ما قارنت زمن الانحطاط الذي سقطت فيه مصر منذ انقلاب عام 1952 وإلى الآن، مع أزمنة سحيقة حكمها المسلمون، ربما يعتريك الذهول مما تراه عيناك، فلا وجه للمقارنة إطلاقًا بين ما شيده الحكام المسلمون مع ما يقوم به الخونة العسكر.
وعلى سبيل المثال وفي كارثة السيول التي تصاب بها مصر في كل عام مرة أو مرتين، والتي كشفت وفضحت عجز العسكر تارة، وتواطؤهم على المصريين تارة أخرى، يقف “ابن طولون” ذو الأصول التركية، والذي التحق بخدمة الخليفة العباسى “المستعين بالله” عام 248هـ، وصار موضع ثقته وتقديره، وقدم إلى مصر في بداية الأمر عام 254هـ، نائبا عن الوالى التركى “باكباك”، ومن بعده “يارجوخ”، حيث أُسندت إليه مهمة إدارة شئون البلاد، وهو يقول “أريد بناء جامع إذا احترقت مصر بقي وإذا غرقت نجا”، ما يعني أن ذلك الجامع بعمارته سيكون منارة معمارية في ربوع مصر كلها يهتدي به البناءون.
ازدهار إسلامي
وعلى عكس جنرال إسرائيل السفيه عبد الفتاح السيسي، وخلال عامين فقط تمكن “ابن طولون” من السيطرة على زمام الأمور، وشهدت مصر في عهده ازدهارا في كافة النواحي الاجتماعية والصحية والاقتصادية، حيث أنشأ ولأول مرة “البيمارستان” وهى مستشفى يعالج فيها المرضى مجانا، فيما يرفع السفيه السيسي في وجه المصريين عبارة “مفيش”.
كما اهتم بأمور الزراعة وشق الترع وتطهير النيل وتشييد الجسور، وأصلح مقياس الروضة، وأنشأ قناطر تحمل المياه من النيل إلى بيوت الناس في الفسطاط، وكانت العملة في ذلك الوقت مصكوكة باسمه فيما عرف بـ”الدينار الطولونى”، وأنشأ أسطولا بحريا لحماية شواطئ الدولة، كما ازدهرت الصناعة في عهده، خاصة صناعات النسيج والورق والصابون والسكر، إضافة إلى صناعة الأسلحة، ولهذا أُعجب به الشعب المصرى ووقف إلى جواره، حتى امتد نفوذه إلى بلاد الشام، وصارت مع مصر، ولأول مرة، أرضا واحدة!.
وبالحديث عن تخطيط عمارة مسجد “ابن طولون” في تصريف المياه، وضع شروطا اتسمت بالصعوبة لبناء جامعه، ولهذا السبب اختار الجبل الذي اعتقد الناس في عصره أن سفينة نوح استقرت عليه بعد الطوفان.
والمسجد مبنى منذ ما يزيد على 1200 سنة، ومزاريبه تعمل بكفاءة عالية وتطرد المياه من الأسقف وتنزلها على الصحن، ومن الصحن تخرج المياه من خلال مواسير تطرد المياه للخارج، فيما تغرق القاهرة وباقي المحافظات في عهد الانقلاب.
ومع كارثة السيول وتكرارها، اقترح أحد المهندسين المصريين على حكومة الانقلاب إنشاء بلاعات تصريف لمياه الأمطار وبتكلفة نصف مليار فقط للقاهرة كلها، وعلى الطريقة الرومانية القديمة، تضمن فكرة “الرصيف المثقوب” وتكون أحجاره مجوفة ويحتوى على فتحات مقابلة للطريق تسمح بمرور الماء داخله، ويقوم بدوره بتحويل الماء لأى مكان لتستفيد منها، حيث بالإمكان أن تتحول للنيل وتزود منسوب المياه فيه، وبالطبع تقلل الضغط على شبكة الصرف أوقات الأزمات.

نكسة معمار السيسي
وعلى الرغم من مرور الزمن، إلا أن العمارة الفاطمية لا تزال تحتفظ بمكانتها، كما أنها تعتبر نموذجا يحتذي به في العمارة الحديثة التي تصرف السيول ولا تتأثر بكوارث الأمطار، خاصة وأن تلك الفترة تضمنت أجمل الآثار المعمارية في التراث الإسلامي، وكان أبرزها: “باب النصر، باب الفتوح”.
ويعد “باب النصر” أحد أبرز نماذج المعمار الحربي للعصر الفاطمي المضاد للسيول والأمطار، خاصة وأن الهدف منه دعمهم بأسوار مكملة لحماية تلك المناطق من المعتدين. ويقع باب النصر وباب الفتوح في الركن الشمالي لمدينة القاهرة الفاطمية، عند نهاية شارع المعز لدين الله، بين حي الحسينية، وحي الجمالية، تلك الشوارع التي زارتها مياه المطار كالضيف المتعجل وتركتها نظيفة لا توجد بها بركة واحدة.
ولا يمكن أن تذكر العمارة الفاطمية وقوتها في مواجهة السيول، دون أن يذكر مؤسس مدينة القاهرة وباني الجامع الأزهر، ومؤسس الدول الفاطمية، جوهر الصقلي، والذي اعتمد في بناء دولته والقاهرة آنذاك على الأبواب والأسوار، فبنى القاهرة بأسوارها وأبوابها المنيعة، التي جمعت في تصميمها بين الفخامة والأصالة والقدرة على مواجهة كافة الكوارث من زلازل وأمطار وسيول وحتى فيضانات.
وتعددت الأبواب التي بناها الصقلي، وأتى من بعده بدر الجمالي، وزير الخليفة المستنصر بالله وأعاد بناءها وتطويرها، وهي الأبواب التي لا يزال بعضها موجودًا مثل: “باب الفتوح، والنصر، وزويلة”، فيما تلاشى أثر البعض الآخر منها ولم يبق منها سوى أسماء.
وفي العمارة الفاطمية يعد باب النصر أحد أقدم بوابات القاهرة، حيث شيده جوهر الصقلي عام (1087)، في المنطقة الشمالية الشرقية للقاهرة الفاطمية، وهي بوابة حجرية ضخمة محصنة بنيت في الجنوب من باب الفتوح، أطلق عليها الوزير بدر الجمالي اسم “باب العز”، ومع كارثة غرق القاهرة والتجمع الخامس في السيول، تداول مصريون صورا لمنطقة “باب العز”، وقد خلت تماما من السيول، بل كانت الشوارع نظيفة وكأنها اغتسلت فقط وطردت الماء.
وفضل سكان القاهرة مسمى “بوابة النصر”، والذي ظل مستخدما حتى يومنا هذا، ولعل سبب هذا التمسك أن هذا الباب كان بوابة دخول الجيوش المصرية المنتصرة، حيث مر منها الظاهر بيبرس والمنصور قلاوون والأشرف خليل والناصر قلاوون بأسرى أعدائهم.
وعلى العكس من الأبراج الأسطوانية التي يتميز بها كل من باب زويلة وباب الفتوح، فإن باب النصر له شكل مستطيل، ويمكنك رؤية بعض الآثار البيزنطية في طرازهما المعماري، واستُخدم في البناء بعض الأحجار الفرعونية، لذلك ترى بعض النقوش الهيروغليفية على جانبيه.
ويعتبر باب النصر من أهم الآثار العسكرية التى بقيت من الفترة الفاطمية، وتمتاز البوابة بالزخرفة على الجانبين وجبهات الأبراج، والتي ترمز إلى النصر وحماية المدينة من الأعداء، وبين جانبي البوابة يوجد باب ضخم عال تعلوه فتحة محاطة بنقوش عليها كتابات تذكر اسم من قام ببنائه الخليفة “المستنصر”، وأمير الجيوش “أبو النجم بدر”، فيم تخيم على مصر الآن سياسة الهدم والتخريب التي يتعمدها العسكر لصالح المستثمرين من الإمارات.