الزفة الإعلامية التي تواكب عرض مسلسل “الاختيار” بعد الإنفاق ببذخ على المسلسل الذي تنتجه شركة تابعة للمخابرات العامة، إنما يستهدف بالأساس ترميم شعبية النظام والمؤسسة العسكرية؛ عبر التوظيف السياسي للدراما.
هذه الشعبية التي تآكلت بشدة في أعقاب انقلاب 30 يونيو 2013م، والإطاحة بالنظام الديمقراطي المنتخب بل بالمسار الديمقراطي كله وإعادة تكريس سلطوية عسكرية احتكرت كل شيء، السياسة والاقتصاد، فأممت الإعلام وكممت الأفواه وحولت مصر إلى سجن كبير لا صوت فيها يعلو على صوت العسكر.
وعندما نحلل مضامين وتوجهات فضائيات السلطة وصحفها ومواقعها الإخبارية، فإن هناك حملة ممنهجة تستهدف المبالغة في الدعاية لهذا المسلسل، في إطار توظيف الدراما سياسيا لخدمة أهداف السلطة وتكريس منظومة الاستبداد والقمع، وهو ذات السياق الذي تم من خلال توظيف السينما من خلال فيلم “الممر” الذي حظي بنفس القدر من البروباجندا والمبالغة في الدعاية، رغم أنه من الناحية الفنية افتقد إلى مقومات النجاح الحقيقة وظهر كأداة دعاية خالية من المضامين الفنية وفق المعايير العلمية المعروفة.
حتى عندما نحلل بيان مؤسسة دينية كالإفتاء، فإنه يركز كل همه على مزاعم الشعبية الجارفة التي تتمتع بها المؤسسة العسكرية، وأن الإقبال الجماهيري الواسع على المسلسل برهان على ذلك؛ رغم أن هذه المزاعم تفتقد إلى أي دليل يؤكد صحتها: أولا لأن رصد نسبة المشاهدة للفضائيات والمسلسلات إنما تقوم به شركات خاصة تقيس حجم المشاهدة ونسبتها من خلال أدوات تكنولوجية متطورة، وهو بالطبع ما لا يتوافر لدى دار الإفتاء ولا حتى النظام العسكري كله، فمن أين عرفت دار الإفتاء أن المسلسل يحظى بمشاهدة عالية إلا إذا اعتبرت الاهتمام الإعلامي الموجه دليلا على ذلك، وهو معيار ساقط من الأساس لأن منظومة الإعلام في مصر تفتقد إلى الاستقلال ولا تنشر إلا ما يأتيها من توجهات من الرقيب العسكري.
ثانيا، أن نسبة المشاهدة بحد ذاتها ليست دليلا على شعبية المؤسسة العسكرية ولا النظام كله، ذلك لأن هناك من يشاهدون بهدف الترفيه وقضاء الوقت أمام المسلسلات عموما مهما كانت رداءتها، خصوصا في ظل العزل المنزلي خوفا من عدوى كورونا.

تآكل شعبية العسكر
استطلاع الرأي الوحيد الذي يمكن الوثوق في نتائجه والمعبر عن شعبية نظام 30 يونيو والمؤسسة العسكرية، أجراه مركز “بيو” الأمريكي، في الفترة بين 10 إلى 29 أبريل 2014م. وصدرت نتائجه في 22 مايو في ذات العام ونشرتها وكالة رويتز، هذا الاستطلاع جاء في عنفوان شعبية السيسي والنظام والمؤسسة العسكرية، وبعد أقل من سنة على مرور انقلاب 03 يوليو 2013م، ورغم ذلك تكشف نتائجه عمق الانقسام داخل المجتمع المصري، فبعكس ما كانت تروج له وسائل الإعلام الموالية للنظام، فإن الاستطلاع كشفت أن شعبية السيسي وقتها لا تتجاوز 54%، وعارض 43% من العينة إطاحة الجيش بالرئيس المدني المنتخب الدكتور محمد مرسي. وأعرب 72% من المصريين عن عدم رضاهم عن الوجهة التي تسير نحوها بلادهم. وعبر 42% عن تصورات إيجابية للرئيس محمد مرسي بينما كان آخر استطلاع أجراه المركز قبيل الانقلاب بأسابيع بلغت 53%، ما يعني أن وقت الانقلاب كان الرئيس مرسي يحظى برضا أغلبية المصريين.
كشف الاستطلاع عن تراجع حاد في شعبية المؤسسة العسكرية؛ حيث ذكر 56% وقتها أن للجيش تأثيرا جيدا في البلاد بينما اعتبر 45% تأثيره سلبيا، وللتأكيد على هذا التراجع كان استطلاع المركز قبيل الانقلاب بأسابيع كشف عن رضا 72% عن تأثير الجيش بينما رآه 24% سلبيا، وكان استطلاع المركز عقب ثورة 25 يناير قد كشف أن 88% من المصريين عبروا عن رضاهم عن التأثير الإيجابي للجيش مقابل 11% رأوه سلبيا، ما يعني أن المؤسسة العسكرية تراجعت شعبيتها في 2014 من 88% إلى 56 فقط ما يؤكد التراجع الحاد في شعبيتها.
ورغم الحظر والملاحقة وحملات الدعاية السوداء حازت جماعة الإخوان على 40% من رضا المصريين، بحسب الاستطلاع، وهو ما صدم أبواق العسكر والانقلاب وقتها. وأن الذين يعارضون الإطاحة بمرسي هم الأكثر تفضيلا للديمقراطية لنظام للحكم من أولئك الذين يؤيدون الإطاحة به. وكشفت نتائج الاستطلاع أن توجهات السيسي الاقتصادية تحظى برضا 21% من المصريين، بينما رأي 76% عكس ذلك.

ماذا عن شعبية السيسي والجيش اليوم؟
كان استطلاع الرأي، الذي أجراه مركز “بيو” قبل رفع أسعار الوقود 5 مرات لتصل الزيادة إلى 700% في 6 سنوات فقط، وقبل أن يصدر الجنرال قرارات تعويم الجنيه، والتي أفضت إلى تآكل قيمة العملة المحلية ليرتفع سعر صرف الدولار من 8 جنيهات قبيل التعويم إلى 18 جنيها بعده وما أداه ذلك إلى موجات متتابعة من الغلاء الفاحش الذي طال جميع السلع والخدمات؛ فارتفعت أسعار المياه والكهرباء وتعريفة الركوب وتذاكر المترو وأكثر من 27 خدمة حكومية بنسبة تصل إلى 500% عما كانت عليه قبل عامين فقط!.
وكان هذا الاستطلاع قبل أن يتوسع النظام في الديون حتى وصل حجم الديون الداخلية إلى “4.5” تريليون دولار والخارجية إلى 115 مليار دولار، أي أن السيسي وحده اقترض 4 أضعاف ما اقترضه جميع حكام مصر السابقون!
وكان هذا الاستطلاع قبل أن يتنازل الجنرال عبد الفتاح السيسي عن جزيرتي “تيران وصنافير”، والتفريط في ثروات مصر من الغاز للصهاينة والقبارصة واليونانيين. وكان هذا الاستطلاع قبل أن تتضح صورة عسكرة الدولة كما هي عليه اليوم في 2020م، وقد هيمنت المؤسسة العسكرية على مفاصل الاقتصاد وهددت مصالح القطاع الخاص بصورة مخيفة؛ كما أن نظام السيسي العسكري أمم الفضاء السياسي والإعلامي وكمم الأفواه وقتل الشباب واعتقل المعارضين وصادرت الحريات وأهدر جميع مكتسبات ثورة 25 يناير وعادت مصر عسكرية كما كانت بل أكثر وحشية وبشاعة مما كانت عليه أيام الديكتاتور حسني مبارك. وامتد قمع السيسي من الإسلاميين إلى العلمانيين واعتقل قادة سياسيين بارزين وجنرالات كبار لمجرد أنهم انتقدوه أو فكروا في منافسته سياسيا .
كل هذه العوامل وغيرها أفضت إلى تآكل جذري في شعبية الجنرال عبد الفتاح السيسي ومنظومة الحكم العسكري القائم، ووفقا لتقرير نشرته صحيفة “وول ستريت جورنال” الأميركية، في فبراير2018 فإن شعبية السيسي بدأت تتآكل، منذ أواخر عام 2016، بسبب المشاريع الكبرى “الفرعونية” الطابع، مصحوبة بمؤشرات ارتفاع أسعار الغذاء والوقود والدواء وغيرها من السلع الحيوية المهمة لحياة المصريين.
كانت نتائج هذا الاستطلاع قبل تمرير تعديلات دستورية تفضي إلى تأبيد السيسي في السلطة ومنحه صلاحيات فرعونية مطلقة على جميع مؤسسات الدولة، وهو ما ينسف جميع الأكاذيب التي تم ترويجها في 30 يونيو، فتحولت المؤسسة العسكرية إلى أكبر إقطاعي يستحق تأميم جميع أصوله وثروته التي لا يعرف أحد حجمها ومداها.
ومنذ 2014 لم يعد مركز “بيو” أو غيره من مراكز البحث المهنية يقوم باستطلاعات جديدة في مصر؛ لأن النظام بدأ يحول دون ذلك من جهة كما أن المجتمعات التي يسود فيها الخوف بسبب الطغيان والاستبداد السياسي يخشى الناس فيها من التعبير عن آرائهم بحرية، ما يفقد أي استطلاع قيمته العلمية لغياب المعايير الصحيحة لإجرائه. لتبقى الساحة أمام مراكز البحث الحكومية تمارس التدليس والبهتان لتجميل وجه نظام مشوه، ومؤسسة عسكرية فقدت شرفها منذ أطلق الرصاص على صدور شعبها وخنعت في مذلة أمام عدوها اللدود.