لمن لا يعرف الدكتور “محمد مشالي” الذي لقب بطبيب الغلابة، لمراعاته ظروف الطبقة التي أفقرها العسكر ونهبوا أموالها، صاحب أرخص كشف في العالم (١٠ جنيهات)، وجد أن الطب رسالة حقيقية وإنسانية بالدرجة الأولى، وهو المبدأ الذي اتبعه طوال مشواره والذي بلغ 50 عاما في الطب، رفض جميع المساعدات المقدمه له؛ فاستغل العسكر ذلك وأبرزوا تلك الحالة الفريدة في إعلامهم، على أنها نموذج من الفقر يجب أن يُقتدى به!
ومن “اليوم السابع” إلى “البوابة نيوز” اندلعت حمى التملق في مواقع وصحف العسكر، وتحت عنوان ” طبيب الغلابة.. طالب ينحت تمثالا للدكتور محمد مشالى تقديرا لخدماته”، كتب موقع “اليوم السابع” وثيق الصلة بالمخابرات يقول: “وفى محاولة للتعبير عن تقدير جهود الدكتور محمد مشالى الذى تجاوز عمره الـ75 عامًا، تداولت صفحات على موقع التواصل الاجتماعى “فيس بوك”، تمثال “بورترية” نحته طالب اسمه فارس على، لوجه طبيب الغلابة، وحظى التمثال الجديد للدكتور محمد مشالى، بإشادة عدد كبير من متابعى صفحات منصة السوشيال ميديا الشهيرة”.
الفقير أبو جلابية مقطّعة
والدكتور محمد مشالى، من محافظة الغربية، ورغم سنوات عمره الطويلة التى تخطت الـ75 عامًا، إلا أنه ظل مغمورًا لا يعرفه سوى أهل قريته الذين يتلقون خدماته الطبية، بمقابل أجر رمزي يتراوح ما بين 5 إلى 10 جنيهات.
حتى ذاع صيته وتردد اسمه وانتشرت صوره في المواقع الإلكترونية وعلى صفحات السوشيال ميديا وفى البرامج التليفزيونية، لإبراز بساطته وحرصه على خدمة الناس دون السعى وراء مال أو تحقيق ثروات، ورفض مؤخرا مساعدة مالية كبيرة من أحد البرامج مما أثار دهشة رواد مواقع التواصل الاجتماعي.
ويتزامن تلميع طبيب الغلابة الدكتور “مشالي” مع توجّيه جنرال إسرائيل السفيه عبدالفتاح السيسي حكومته، إلى بيع مئات المستشفيات الحكومية التي لا تتوفر ميزانية لتجديدها أو تطويرها، للمستثمرين والجمعيات الخيرية لإدارتها بدلا من القطاع العام.
ومع تفشي وباء الكورونا في مصر، قوبلت دعوة السفيه السيسي بموجة من الرفض الشعبي، حيث استنكرتها نقابة الأطباء ونشطاء ومدافعون عن حق المواطنين في العلاج، واعتبروها بداية لخصخصة قطاع الصحة بالكامل.
وكان السفيه السيسي قد وجه وزير صحة الانقلاب، الخميس الماضي، على هامش افتتاح تطوير مجمع طبي عسكري بالقاهرة، إلى تنفيذ ما تم الاتفاق عليه منذ ثمانية أشهر، وبيع مستشفيات حكومية لا تستخدم لنقص الأجهزة بها، مشيرا إلى أن هذه الفكرة ستوفر دخلا وعلاجا بديلا للمواطنين المحتاجين؛ ما دامت الحكومة غير قادرة على القيام بهذا الدور.
وحاولت وزارة صحة الانقلاب تهدئة المخاوف من هذه الخطوة عبر مستشار وزير الصحة هشام عطا، الذي أكد أن الاقتراح مقتصر فقط على تطوير المستشفيات من خلال المستثمرين، وليس بيعها، ولكن كثيرا من المصريين لم يقتنعوا بتلك التصريحات.
يقول الناشط والمحلل السياسي عبده فايد: “في نوع من الناس الدولة بتحبّه وتلمّعه جدًا..الفقير المعدم، اللي مفيش في جيبه جنيه، ومش عارف يسد أبسط احتياجاته الآدمية، ومع ذلك عمره ما يسألها حقي في التعليم والرعاية الصحية والإعانات الإجتماعية فين؟..لأ..بيحمّل نفسه المسئولية..فقره بسبب كسله وقلة مجهوده..ما هو أصل ربنا خلق الناس طبقات..وإيه هتكسب من الدنيا لو آخرتك خسرانة..الغني غني النفس والحساب يوم الدين..الفقير أبو جلابية مقطّعة، اللي بيتلخبط في إسم الجنرال الأول، وبينطق بلكنة فلاحية أو صعيدية غائرة، الدولة دائمًا تسمّيه..أهالينا البسطاء..مبارك يأخد معاه فنجان شاي، وينزل علي شاشات القناة الأولي أيام تزوير إنتخابات 2005 علي أنغام ‘‘اللي ضحّي لأجل وطنه‘‘، أو الجنرال السيسي، يشوفه سايق ميكروباص، فيصطاده من علي الطريق، ويعطيه اللي فيه النصيب، ويعمل علي حس العطيّة، كام فيلم قصير، تذيعهم القنوات السيادية”.
مضيفا: “الدولة استثمرت كويس جدًا عشان تنتج هذه النوعية من “أهالينا البسطاء”.. وأكبر استثماراتها كان الخطاب الديني الوقح في انبطاحيته..خطاب بيقدّمه جيل جديد من مشايخ السلطة..شاب لطيف، بدقن خفيفة، وقميص ضيّق بيوضّح مجهوده في الجيم، ومش بيعمل شيء في حياته، غير أنه بيكلمك عنك..بس مش عنك كجزء من دائرة أوسع اسمها السلطة والمجتمع وتراتبية القرار وهرم الثروة..لأ..عنك كجزء منبّت الصلة بكل التفاعلات التي أنتجته..مش معني أنك خريج جامعة، لا تيجد ألف باء بحث علمي، ومستواك في سوق التوظيف رديء..أنك تلقي باللائمة علي فشل قطاع التعليم الحكومي..مش معني أنك تعبت ومش لاقي دوا وعلاج وسرير في مستشفي، أنك تسأل عن مخصصات قطاع الصحة..ولا معني أنك مش قادر تجيب شقة إيجار جديد وتفرشها عشان تتجوّز، أنك تسأل اللي فوق عن حقك في السكن”.
وتابع: “أنت مش ضحية للسلطة.. أنت ضحية لنفسك وسوء عبادتك وتعلقك الزائف بالحياة الدنيا.. وفي الآخر من أعمالكم سُلط عليكم، ودي الحكومة اللي تستحقها، ولا يُغير الله ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم..متفهمش غلط وتفكّر أن ‘‘ما بأنفسهم‘‘ تعني تغيير أحوالك الكلية، بمحاسبة السلطة وانتزاع حقوقك، لأ، ما بأنفسهم، اللي هو أنت، غيّر الأول الفقر والجهل والمرض اللي الدولة زرعتهم فيك، وبعدها ابقي اسألها عن حقك..والنتيجة مواطن فقير وخانع، لا هيغيّر نفسه، ولا عيغير السلطة، وهيفضل في دائرة العبودية، يشتغل بأقصي جهد، وبأقل أجر، ويرضي بنصيبه، بل وسيتحوّل إلي كلب السلطة المسعور حرفيًا، لو غيره فكّر يسأل عن حقه..الدولة استثمرت في بناء المواطن الذليل وكسبت فعلًا..وموت مبارك كان مؤشر هائل علي تقديس الناس لجلاديهم الذين أفقروا وأمرضوا وطغوا..قطاع واسع كان يترحم بصدق شديد جدًا، وهو مقتنع أن مبارك قدم ما عليه، وأنهم المسئولين فقط عن مصائرهم التعيسة”.
دكتور مبيسألش الدولة
وأضاف فايد: “دكتور فقير، بيساعد فقراء، في منطقة فقيرة.. دكتور لا يعتني بلبسه أو هندامه وهيئته وشكل عيادته تشيان بانعدام أبسط إجراءات الاعتناء بالنظافة الشخصية الضرورية لممارسة المهنة وثقة المرضى.. دكتور مبيسألش الدولة عن التأمين الصحي وعن حقه في أجر عادل يوازي مجهوده والمصاريف التي تكبّدتها أسرته لتعليمه وتوظيفه.. هو ده بالتحديد النموذج اللي الدولة ممكّن تلمّعه بداية من برنامج المذيع التائب عن السياسة بعد قرصة ودن، والمتّجه لبرامج الوعظ المجتمعي والصعبانيات على قناة النهار، لغاية برنامج غسيل السمعة الإماراتي.. نموذج أهالينا البسطاء في الدكتور مشالي، مش بيتلمع لشخص الرجل.. إطلاقًا.. بل لإدانة كل شخص يطالب بحقه.. لما تبقى دكتور ومتخرج وبتطالب بمرتب كريم أو بدل عدوي، يمنعك من الإستقالة أو الهرب للخارج، هيحط صورة مشالي في وجهك، ويصدّرك للمجتمع باعتبار مطالبتك بحقك، جشع، لأن غيرك بيمارس المهنة بمنتهي الذل، تحت شعار لوجه الله الكريم..ومش بس كده”.
وأوضح: “تلميع الفقر وتهوين خطره على الناس.. الفقراء بيلبسوا صحيح وحش، وبيأكلوا أي كلام، وخدمتهم الطبية مرفقة بالذباب والهاموش، وتنعدم فيها إجراءات الأمان، بس لطاف ومتواضعين وراضيين بقدرهم، وقافلين أفواههم، ومش بيسألوا عبد عن الثواب، وطمعانين فقط في رضا الله.. وهذا أسوأ ما في الأمر.. بيحوّل الفقراء لشيء شبه الفولكلور، الجماعة اللي فوق بيبصوا له، كأنه جزء من روح البلد، وأهله باعتبارهم قطعة ديكور، وساعات بنك حسنات مجاني، نروح له في رمضان، واحنا مبتسمين، نطلع له صدقة علي جنب، عشان نخفف وخز الضمير وناخد مترين في الجنة..بيخلي الناس تطبّع مع وجود الفقر في حياتها وترمي مسئوليته علي أكتافهم، وميرفعوش عينهم ويحاسبوا اللي سرقهم، لأ، يستمروا في البحث عن فقير، كتفه تقيل شوية، عشان يشيل همهم، نيابة عن الدولة..وياريت يبقي طبيب فقير، عشان نلبّس المفاهيم في بعض..الذل يصبح مرادف للزهد، وامتهان الكرامة يصبح نظيرًا للورع..والصمت عن الأسباب الكلية للمرض والفقر يصبح مثيل لتعريف المواطن الصالح”.
وتابع فايد: “وهنا تحضرني سيرة أحد أكثر الأطباء الذين أحترمهم في حياتي.. الفائز بجائزة نوبل للسلام عام 2018.. الدكتور دينيس مكويجي.. هذا الطبيب عمل في بيئة هي الأشرس علي وجه الأرض.. بلده الكونجو كينشاشا، وفي أسوأ حرب شهدتها القارة كلها، الحرب الكونجولية الثانية التي أودت بحياة 6 ملايين إنسان 1999-2003، ومع أكثر فئة مستضعفة ومستباحة، النساء اللواتي تعرّضن للاغتصاب الممنهج من كافة أمراء الحرب وجنود دول الجوار الست المنخرطة في المعارك.. ومع ذلك أصّر هذا الطبيب على العمل في أقصى الشرق، وعالج، جسديًا ونفسيًا رقمًا يتراوح بين 60 ألفا-100 ألف امرأة مُغتصبة، حتى هاجمته الميلشيات وقتلت حراسه وكادت أن تفتك بحياته وأسرته، ففّر للسويد، لولا أن النساء جمّعن ثمن التذكرة وأعادوه للوطن، في مشهد مهيب وسط سلاسل بشرية من المحتفين، ربما لا ينالها أعتى رؤساء الأرض شعبية.. لكن دور مكويجي لم يكن فقط العلاج.. لكانت الميلشيات قد تركته ..دوره الموازي في الأهمية، كانت كلمة “لا” التي رفعها في وجوه القتلة والمغتصبين، دوره في تنبيه العالم لتواطئه بالصمت مع القتلة محتكري حقول المعادن في بلد يزخر باطنه بما قيمته 24 تريليون $ منها.. دوره في المجازفة بأمنه الشخصي، وحيدًا، في مواجهة ترسانات أسلحة تستبيح الكل.. وتلك هي القيمة الموازية للأيقونات.. الموقف جنبًا إلي جنب مع أخلاقيات المهنة.. دون إدعاء الفقر أو التمترس وراء تواضع مضاره الجمعية أضعاف عوائده الشخصية”.
المنبهرون..!
وشدد فايد: “المنبهرين بنموذج الدكتور مشالي.. لو قلبهم علي الفقراء.. هيروحوا يسألوا السلطة.. فين ميزانية الإنشاءات في وزارة الصحة؟ فين منظومة التأمين الصحي الشاملة؟ فين تجهيز الوحدات الصحية في النجوع والقري بوسائل علاج آدمية؟ فين حقي كمواطن أني أتلقّي خدمة طبيبة كفؤة من غير ما اضطر أترمي علي الأرصفة أو أنتظر في قوائم لا نهاية لها؟ وليه أنا مضطر أتبرع لمستشفيات 333 و57357 مستشفي الناس ومعهد الكبد ومعاهد الأورام ومستشفيات علاج الحروق..وليه كل الصروح دي بتطلع علي كتفي، والسلطة وافقة تتفرج وتهدر أموال ضرائبي في تفريعة كنال وعاصمة صحراوية..وليه دكتور في السن ده، يظهر بهذا الشكل الغابر، بينما من في مثل عمره، يستحقوا أن يكونوا في مكان أفضل نظير مجهود كل تلك السنوات.. ولإمتي سيستمر الطب مهمة خيرية للمواطن الفقير والطبيب الفقير؟..لكن هيهات أن يسألوا وأن يحاسبوا..لأ..لأنهم تربية الذل التي استثمرت فيها الدولة بكثافة..ويوم ما يمرضوا ولا هيفكروا لحظة يعدّوا علي عيادة الدكتور مشالي المفتقرة لأبسط أنواع النظافة..ولا هيقربوا من سور مستشفي حكومي، لا يخرجوا بمرض غير اللي دخلوا به..هما عارفين طريقهم كويس أوي للمستشفيات الخاصة..وبعد علاج 5 نجوم..هيخرجك يكلمك عن الصبر وفضائله، والقناعة وشمائلها، والفقر ومحاسنه، ومش هينسي يفكّرك أبدًا أن المشكلة فيك، مش في السلطة”.
وختم بالقول: “يا مدام، أنتوا بتشوفونا واحنا بنخدمكم، ولازم نضحك واحنا بنخدمكم عشان متزعلوش منّنا، إنما لو جيتوا شوفتونا جوه بيوتنا مش هتصدقوا، احنا بلد تانية غير بلدكم..الفقر مش بيخلي لحد هيبة، احنا كلنا في الحتة عاملين زي حمير العربجية، بنشيل اللي يقطم وسطنا..الفقر كسرنا..عشان كده الهلافيت والكدابين والأونطجية بيتنططوا علينا..ركبونا يا ست” صلاح عبد الله محدثّا يسرا في فيلم دم الغزال”.
من جانبه؛ وصف مدير مركز الحق في الدواء، محمود فؤاد، بيع المستشفيات الحكومية للقطاع الخاص، بأنه “أمر مؤسف للغاية”، وقال إن مصر فيها 450 مستشفى لعلاج الفقراء من خلال مظلة التأمين الصحي والعلاج على نفقة الدولة، وليس من المنطقي أن يكلف السفيه السيسي وزير الصحة “الفاشل” بأن يبيع هذه المستشفيات من أجل الحصول على “شوية فلوس” للدولة، ونترك الفقراء يعانون وحدهم.
وأضاف أن “مصر تعاني من أزمة دواء طاحنة تضرب كل أطرف القطاع الطبي من شركات ومرضى وحكومة ومستشفيات، ومن الأولى العمل على حل هذه المشكلة وزيادة الإنفاق السنوي على الصحة والبالغ 120 مليار جنيه فقط”.
وأوضح فؤاد أن هذا قرار بيع المستشفيات “يضرب فكرة العدالة الاجتماعية في مقتل”، مضيفا أن “مبارك وعصابته لم يفعلوا ما قام به السيسي من امتصاص لدماء الفقراء بهذا الشكل العجيب، فعندما دعت هيئة المعونة الأمريكية عام 1995 إلى رفع الدعم عن الخدمات الصحية؛ لم تستطع الحكومة وقتها أن تقوم بذلك خوفا من الغضب الشعبي”.
وختم بالقول: “السيسي نسف كل الاتفاقيات الدولية بهذا القرار، ويفعل الآن ما تطلبه منه أمريكا بالحرف”.