“فلسطين”.. الحبل السُري بين استشهاد البنا وجهاد السلطان عبد الحميد

- ‎فيغير مصنف

مرت منذ أيام ذكرى وفاة الخليفة العثماني السلطان عبدالحميد الثاني رحمه، واعقبها ذكرى وفاة الشهيد حسن البنا رحمه الله، وهما من الشخصيات التي أثرت بشكل كبير في التاريخ الإسلامي خلال السنوات المادية؛ وكانا من العلامات الفارقة في تاريخ القضية الفلسطينية؛ فالأول أطيح به من الخلافة الإسلامية بسبب موقفه الرافض لبيع فلسطين لليهود أو التنازل عن جزء منها للصهاينة ليكون وطنا قوميا لهم، والثاني سطر وجماعته ملحمة في نصرة القضية الفلسطينية منذ بداية التغلغل الصهيوني داخل أراضي المسلمين هناك وحتى اليوم، مرورا ببطولات الإخوان في حرب فلسطين 1948، واغتيال البنا نفسه فداء للقضية. 

كما ارتبط "عبد الحميد" و"البنا" بأن سقوط الخلافة التي كان السلطان على رأسها كان أحد الهموم التي تؤرق البنا ويسعى لإعادتها مرة أخرى دفاعا عن وحدة المسلمين وحماية شوكتهم. وكان الدفاع عن فلسطين أرضا وشعبا من أهم ما سعى إليه "السلطان" فيما كانت استعادة فلسطين وطرد الاحتلال من أولويات عمل "البنا" حتى لحظة اغتياله، ومحور اهتمام جماعة الإخوان حتى اليوم. 

الغاية العظمى

و حدد الإمام البنا قبل استشهاده الغاية العظمى لقيام جماعة الإخوان المسلمين، وهى إصلاح الفرد ثم بناء الأسرة ثم إقامة المجتمع ثم الحكومة فالخلافة الراشدة فأستاذية العالم، أستاذية الهداية والرشاد والحق والعدل.
وتشكل جماعة الإخوان المسلمين خطرا كبيرا على كيان العدو الصهيوني، عقب إظهارهم بأسا شديدا في قتال عصابات الاحتلال على الأراضي الفلسطينية، بشهادات قادة العصابات الصهيونية في تلك الفترة، مع ذلك تحول الأمر بعد التغيرات التي طرأت على المنطقة، وعلى رأسها استشهاد المؤسس، ثم تولي العسكر مقاليد الأمور في مصر وعدد من البلدان العربية، والصدامات التي نشبت بين أنظمة الحكم في تلك البلدان والإخوان المسلمين المنهكين بالأساس من كثرة الاعتقالات والملاحقات.

الطريق للقدس
بعد وصول الإخوان في مصر إلى سدة الحكم، وموقفهم من العدوان الصهيوني على غزة عام 2012، قام الاعلام التابع لعصابة العسكر بتولي مهمة تصويرهم على أنهم خطر وجودي على الكيان الغاصب، ما دفع إلى محاربتهم حتى إسقاطهم بانقلاب الثالث من يوليو 2013.
وقد اعترف بعض قادة الاحتلال بضلوعهم في هذا الانقلاب، ومن هذه الاعترافات ما أدلى به من شهادة في الإذاعة العبرية الرئيس الصهيوني السابق شمعون بيريز جاء فيها: "أخشى أن يوجه المصريون غضبهم إلى إسرائيل بعدما فضح الإعلام دور نتنياهو الكبير في دعم الانقلاب على مرسي".
ولا يزال الاحتلال يرى في الإخوان المسلمين الخطر الأكبر، رغم اضطهادهم في مصر وملاحقتهم في تونس والسودان وموريتانيا والخليج العربي، واستصدار قرارات سياسية بملاحقتهم في أوروبا.
يقول الكاتب والباحث محمد الوليدي:" من يومين مرت ذكرى وفاة السلطان عبدالحميد الثاني رحمه الله واليوم تمر ذكرى وفاة الشهيد حسن البنا رحمه الله، اعظم شخصيتين انجبتهما الأمة في العصر الحديث على الإطلاق، ثمة رابط آخر بينهما، أن الأول أزيح عن الخلافة فداء لفلسطين والثاني افتدى بروحه فلسطين..".
ويقول الدكتور عبد العزيز الشناوي في كتابه "الدولة العثمانية دولة إسلامية مفترَى عليها" (أفاقت الحكومات والشعوب الأوروبية التي خضعت للدولة العثمانية لتجد نفسها تخضع ولأول مرة في تاريخها لحاكم مسلم، ومن ثم عملت جاهدة على تصفية هذا الوجود الإسلامي العثماني من أراضيها، وأسهمت معها دول أوروبية لم يمتد إليها الوجود العثماني، ولكن جمعت بينها وحدة الهدف).

إغراءات للتنازل عن فلسطين 

في عام 1896، أصدر الصحفي النمساوي تيودور هرتزل، كتابه، (الدولة اليهودية)، ولقد ذكر فيه أن قيام دولة يهودية من شأنه أن يقلل من حدة اللاسامية المعادية لليهود. ثم انطلق هرتزل ليقدم إغراءات مادية لا تقاوم إلى السلطان عبد الحميد، ولكن السلطان قاومها ورفضها، رغم عِظَمها وتكرار عرضها.
في عام 1904 مات هرتزل، وكاد حلم قيام الدولة اليهودية أن يموت معه، لولا أن التقى الاستعمار البريطاني بخططه ومشاريعه للمنطقة مع أحلام الصهيونية في فلسطين.
في تلك الفترة كانت بريطانيا تمثل أقوى وأكبر الإمبراطوريات الاستعمارية في العالم، ولم يكن ينافسها في التطلع إلى الدولة العثمانية، إلا فرنسا التي رأت أن القارة الإفريقية هي مجالها المناسب للتوسع، وكانت ألمانيا رغم حداثة عهدها بالاستعمار قد بدأت هي الأخرى تتطلع إلى إفريقيا، وإلى مواطن نفوذ الإنجليز والفرنسيين.
درست بريطانيا هذه الظروف ورأت أنه من الضروري إيجاد جبهة استعمارية واحدة للتنسيق بين مصالح الاستعمار المتضاربة، وبالفعل تم تشكيل لجنة عقدت أولى جلساتها في عام 1907، وقد ضمَّت ممثلين عن دول أوروبية عدة، منها بريطانيا وفرنسا وهولندا وبلجيكا، وقد أرسل رئيس الوزراء البريطاني في ذلك الوقت هنري كامبل بانرمان توجيهاته إلى أعضاء تلك اللجنة، جاء فيها: (إن الإمبراطوريات تتكون وتتسع وتقوى، ثم تستقر إلى حد ما، ثم تنحل رويدا، ثم تزول، والتاريخ مليء بمثل هذه التطورات، وهو لا يتغير بالنسبة لكل نهضة، ولكل أمة.. فهل لديكم أسباب أو وسائل يمكن أن تحول دون الانهيار أو تؤخر مصير الاستعمار الأوروبي، وقد بلغ الآن الذروة وأصبحت أوروبا قارة قديمة استنفدت مواردها، وشاخت معالمها، بينما العالم الآخر لا يزال في شبابه يتطلع إلى مزيد من العلم والرفاهية؟ هذه مهمتكم أيها السادة، وعلى نجاحها يتوقف رخاؤنا وسيطرتنا).

البنا وفلسطين
أعدت اللجنة تقريرا اتسق تماما مع ما يتوق إليه اليهود الذين استطاعوا إحكام السيطرة على ممثلي دول أوروبا، فأثروا في مباحثاتهم، ولقد تضمن التقرير النقاط التالية:
1- أهمية السيطرة على البحر المتوسط شريان المواصلات بين الشرق والغرب.
2- استبعاد أي خطر على الاستعمار في أي من المستعمرات، عدا منطقة البحر المتوسط التي يكمن فيها الخطر على الاستعمار؛ لأنها مهد الحضارات ويسكنها شعب له مقومات الوحدة، وإذا تجمعت هذه المقومات مع نزعة هذا الشعب للتحرر، فسيكون في ذلك الضربة القاضية على الاستعمار.
ولذلك فإن على الدول الاستعمارية ذات المصالح المشتركة أن تُبْقِي وضع هذه المنطقة على ما هي عليه مجزأة متأخرة، وأن تُبقي شعبها على ما هو عليه من تفكك وجهل.
3- لمواجهة هذا الخطر يجب فصل الجزء الإفريقي عن الجزء الأسيوي من هذه المنطقة، وذلك بإقامة حاجز بشري قوي وغريب في منطقة الجسر البري الذي يربط آسيا وإفريقيا على مقربة من قناة السويس لتكون قوة صديقة للاستعمار وعدوة للمنطقة.
وقد تلاقت الغايتان؛ غاية اليهود في بناء دولتهم على أرض فلسطين. وغاية العالم الغربي الاستعماري في الحفاظ على مستعمراته والهيمنة على مقدراتها وشعوبها، ومن هنا عقد المتآمرون العزم على ضرورة توجيه الضربة القاتلة للمسلمين، وذلك بالقضاء على دولة الخلافة.
ولكي يتحقق هذا الهدف لا بد من طريقة بعيدة عن الحرب الصريحة مباشرة، تمثلت تلك الطريقة في محورين: أما الأول فكان يخص الجانب التركي، وقد قامت جمعية الاتحاد والترقي بالقيام بمهمة الانقلاب على السلطان عبد الحميد الثاني، وقد كان في مارس 1909.
وأما الثاني فكان يخص الجانب العربي، وقد وقع الاختيار على الشريف حسين حاكم مكة، وقد قام هنري ماكماهون نائب ملك بريطانيا بالتواصل معه في الفترة من يوليو 1915 حتى مارس 1916، واتفقا على أن يشن الشريف حسين الحرب على الدولة العثمانية في مقابل أن يصبح خليفة عربيا على دولة عربية مستقلة عن الأتراك.
في يونيو 1916 اندلعت الثورة العربية الكبرى، على أرض الجزيرة، بقيادة الشريف حسين وولده فيصل، ومعهما بقية الثوار العرب، وكان ذلك بتخطيط ودعم عسكري ومادي بريطاني.
وقد أثمرت جهود الأطراف الثلاثة "البريطاني والعربي والتركي" حيث سقطت الخلافة العثمانية عام 1924، ويذكر التاريخ أن الذين حاربوا دولة الخلافة حتى إسقاطها، هم، الثوار العرب على أرض الجزيرة، والاستعمار البريطاني، والاتحاديون الأتراك.
يقول الشيخ حسن الباقوري، في كتابه، بقايا ذكريات، أنه في عام 1926، عقد الأزهر الشريف مؤتمرا إسلاميا، يدعو فيه لإحياء الخلافة، وفي عام 1928، تأسست جماعة الإخوان المسلمين، على يد الإمام الشهيد حسن البنا، وكان إحياء الخلافة والحفاظ على فلسطين، من أهم أهداف الجماعة.