محمد علي يكتب: “التناضُح الكفاحي” في الذاكرة المصرية بين الثورة العرابية وثورة يناير

- ‎فيمقالات

إن بين المُكافحين والمناضلين من أجل الحرية والحقوق والكرامة على مدار التاريخ تشابهًا وتقاربا كبيرا، وفى الذاكرة المصرية القريبة والمتوسطة حالةٌ من التناضُح الكِفاحي، لم تأخذ حقها من النظر والتأمل الدقيق. ولعلنا بالنظر من هذه الزاوية إلى التقارب التاريخي -الاختلاف والتشابه- نَحثُ أنفسنا على الفكر بطريقة مُغايرة للمنطق، فالتفكير المغاير للمنطق يُثير طاقات العقل ويُغري بإعمال الفكر.
وبحسب أرنست ماي، أستاذ التاريخ التطبيقي بجامعة هارفارد الأمريكية فإن «للاختلافات أهمية لا تقل عن أهمية التشابه». ونستهدف بهذه الكلمات أن نقف على أوجه التشابه بين حالتين من حالات الكفاح المصري، الثورة العرابية وثورة يناير، ونستظهر صور هذا التشابه من لسان أحد رجال الثورة العرابية، شاعر البعث والإحياء، المجاهد محمود سامي البارودي المعروف بــ«ربُ السيف والقلم»
دوَّن البارودي الكثير من أحداث حياته الخاصة والعامة فى ديوانه الكبير، ومن أبلغ ما قرضه هذا الشاعر وأصدقه، أشعاره التي صور فيها بشاعة العيش الذليل، وتحكُم الظالمين، وصبر الناس على الظالم، وتعايشُهم معه، وتخاذلهم فى انتزاع حقوقهم، وما أحوجنا أن نُحي تلك الكلمات فى هذه الأيام!
فيصفُ الحكام فى زمانه.
أَبَى الدَّهْرُ إِلَّا أَنْ يَسُودَ وَضِيعُهُ *** وَيَمْلِكَ أَعْنَاقَ الْمَطَالِبِ وَغْدُهُ
ويعجب من الناس وتعايشهم مع الظلم.
يَرَى الضَّيْمَ يَغْشَاهُ فَيَلْتَذُّ وَقْعَهُ *** كَذِي جَرَبٍ يَلْتَذُّ بِالْحَكِّ جِلْدُهُ
ويُبين اغتمام الشرفاء بأفعال المتملقين للظالمين.
وَأَقْتَلُ دَاءٍ رُؤْيَةُ العَيْنِ ظَالِماً *** يُسِيءُ وَيُتْلَى في الْمَحَافِلِ حَمْدُهُ
ويُقرر أنّ الحياة العزيزة لا تجتمع مع الجُبن وخوف الموت.
إِذَا المَرءُ لَمْ يَدْفَعْ يَدَ الجَوْرِ إِنْ سَطَتْ *** عَلَيْهِ فَلا يَأْسَفْ إِذَا ضَاعَ مَجْدُهُ
وَمَنْ ذَلَّ خَوْف الْمَوْتِ كَانَتْ حَيَاتُهُ *** أَضَرَّ عَلَيْهِ مِنْ حِمَامٍ يَؤُدُّهُ
لم تكن هذه المظاهر وحدها هيَ أوجه التشابه، بل إنّ أوجه التشابه الحقيقية والتي نريد التركيز عليها، هي فقدان الثورة العُرابية لحكمة التوازن التي تحدثنا عنها سابقاً فى ثلاثية الشقاء المركب، وكيف أن اختلال التوازن بين المطالب والقدرات والتحديات هو الذي دفعنا نحو هذا الشقاء.
كانت الثورة العرابية قد وصلت إلى أن تَقلّد أحد رجالها –البارودي-رئاسة الوزراء، بعدما كانت مطالبها الأولي هي حقوق الضباط المصريين فى الجيش، ولكن تطور المطالب المدفوع بالطموح دُون وعي لحقيقة القُدرات والإمكانيات أو حكمة إدارة تلك القدرات لتحقيق المطالب، وكذلك دون استشراف لطبيعة التحديات التي يمكن أن تنشأ من هذه المطالب، قد حول الثورة العرابية إلى جحيم يتعذب فيه المصريون والعُرابيون أولهم.
حُوكِم البارودي ورفاقه، ونُفيَ إلى خارج مصر، وماتت زوجه فرثاها فى قصيدته الشهيرة.
أَيَدَ الْمَنُونِ قَدَحْتِ أَيَّ زِنَادِ *** وَأَطَرْتِ أَيَّةَ شُعْلَةٍ بِفُؤَادِي
وكم من المصريين المنفيين اليوم طوعاً وكرهاً مات أحد أقاربهم، أو مُنِعوا رؤيتهم مُنذُ سنوات، أو مات هو نفسه مهاجراً مغترباً عن وطنه وبعيداً عن أهله! ولأن فى هذه الهجرة الطويلة تتكشف بواطن الناس، يصور لنا البارودي الصحبة الخبيثة التي لا مفر منها.
وَأَصْعَبُ مَا يَلْقَى الْفَتَى فِي زَمَانِهِ *** صَحَابَةُ مَنْ يَشْفِي مِنَ الدَّاءِ فَقْدُهُ
صَحِبْتُ بَنِي الدُّنْيا طَوِيلاً فَلَم أَجِدْ *** خَلِيلاً فَهَلْ مِنْ صَاحِبٍ أَسْتَجِدُّهُ
لقد استحضرنا ذلك التقارب التاريخي من الذاكرة المصرية فى لمحة سريعة، بين حالتين من حالات الكفاح ضد الظُلم، وكيف بَانَ لنا جلياً أنه بشكل ما، هناك أوجه للتشابه فى الدوافع والتطورات والمآلات، هذا ما سميناه التناضُح الكِفاحي فى الذاكرة المصرية.
ما يُمثل تكراراً لتجربة كان من الممكن تفاديها، أو على الأقل تقليل خسائرها واحتوائها فى أسرع وقت.
يقول سون تزو "لا توجد سابقة تاريخية تقول إن بلداً ما قد استفاد من دخوله حرباً طويلة". إننا نريد بهذا أن نسأل أسئلة مغايرة للمنطق، من قبيل: ماذا لو كنا نعرف؟ ماذا لو……؟

والتفكير بهذه الطريقة سيدفعنا حتماً إلى الكثير من الأسئلة، التي ما زالت فى حاجة للإجابة ليست الإجابات السريعة المقولبة، ولكن إلى إجابات تفصيلية تشريحية معرفية. يقول هنري كيسنجر فى كتابه "سنوات البيت الأبيض 1979" إنّ التاريخ بالطبع ليس كتاب طهي يُقدم وصفات مُجربة" ويقول "إنّ التاريخ يستطيع إلقاء الضوء على عواقب الأعمال التي وقعت فى مواقف مشابهة، ولكن يجب على كل جيل أن يكتشف بنفسه المواقف التي يمكن بالفعل إجراء مقارنة بينها". فالتاريخ لا يُعيد نفسه إلا مع الجُهال الذين لا يفقهون دُروسه، ولا يعرفون أنفسهم حق المعرفة. وعندما سُئلَ المستشار الألماني بِتمان هولفيغ (مستشار ألمانيا خلال الحرب العالمية الأولي ورئيس وزراء بروسيا 1909_1917 ) عما آلت إليه الأحداث بعد الحرب العالمية الأولي، قال: "آهٍ لو كُنّا فقط نعرف"!.