محمد إلهامي يكتب: سطوة الغالبين

- ‎فيمقالات

لا تحسبنَّ الخضوع لسطوة الثقافة الغالبة محصوراً في العامة والدهماء، بل هو أمرٌ لا يكاد ينجو منه أحد إلا من عصمه الله تعالى بعقل قوي وإرادة حديدية، وأولئك هم أولياء الحق الذين ينهضون به ويغالبون القوى السائدة، أولئك هم السابقون الأولون إلى كل نبيٍّ وكل مُصْلِح!

للغالب سطوة، وأعظم سطوته ما كان غير منظور ولا محسوس، فلو أنك ذهبت إلى بلد يرسف أهله تحت الاحتلال أو الاستبداد، ثم سألتَهم الرأي لوجدت أقلهم يقول: نرضاه، وأكثرهم يقول: نرفضه، ولكن إذا دققت في قناعاتهم وما ترسخ في نفوسهم من الأفكار والأنظمة والثقافة لوجدتها ذات ثقافة المحتل والمستبد، قد انطبعت فيهم حتى إنهم لا يشعرون بها، بل يحسبون ما ترسخ فيهم من هذه الآراء إنما هو من طبائع الحياة وسنن الكون، لا أمراً خاصّاً بالمستبدين والمحتلين.

يُقضَى على المرء في أيام محنته                     حتى يرى حَسَناً ما ليس بالحسن

وكثيراً جداً ما ترى المرء يعتنق فكرة ويرفضها في الوقت نفسه، يعتنقها لأنها جاءت من الغالب فلبست سطوته واكتست بريقه، ويرفضها إذا وُجِدت عند المغلوب لأنها تلطخت بضعفه وهزلت بهزاله! وقد يكون رفض الرجل وقبوله لنفس الفكرة في ذات الصفحة التي يكتب فيها رأيه، ولا ينتبه هو لما يقع فيها من التناقض.

وهذا المسلك النفسي تردد في كلام أهل الحكمة، فيُنسب إلى عليٍّ رضي الله عنه قوله: "إذا أقبلت الدنيا على أحد أعارته محاسن غيره، وإذا أدبرت عنه سلبته محاسن نفسه"، ويُنسب إلى الشافعي قوله:

إن الغني وإن تكلّم بالخطأ                   قالوا: أصبت، وصدَّقوا ما قالا

وإذا الفقير أصاب، قالوا كلهم               أخطأتَ يا هذا وقلتَ ضلالا

إن الدراهم في المجالس زينة            تكسو الرجال مهابة وجلالا

فهي اللسان لمن أراد فصاحة            وهي السنان لمن أراد قتالا

وأريد في هذه السطور أن ألفت النظر إلى أن هذا المسلك النفسي لا يقتصر على عوام الناس بل يشمل أيضاً أهل الفكر والثقافة منهم، وسأضرب المثال برجلين كانا في زمانهما من نجوم الفكر والأدب، سجَّلا في مذكراتهما هذه المواقف المتناقضة دون أن يشعرا بتناقضهما فيها.

 

1- أحمد أمين:

وهو ذلك الأديب المعروف، المشهور بسلسلته عن فجر الإسلام وضحاه وظهره ويومه، فضلاً عن رئاسته لجنة التأليف والنشر، ومقالاته التي كانت تنشر في صحافة العصر التي جمعها في "فيض الخاطر" في 10 مجلدات.

لقد درس أحمد أمين بالأزهر فسجَّل نفوره من طريقة الأزهريين وقتها في التشقيق والتفريع والتطويل في شرح العبارة الواضحة وإيراد الإيرادات ثم الردّ عليها، وكيف أن هذه الطريقة تشرد بالذهن وتعسر في الفهم حتى يصير انتهاء الدرس متنفساً وأملاً(1).

ولكن أحمد أمين درس فيما بعد في مدرسة القضاء الشرعي (وهي مدرسة سُلِخَتْ من الأزهر وكانت من وسائل إضعافه)، وكان مديرها عاطف بك بركات وهو من قرابة سعد زغلول، وتستحق هذه المدرسة أن نتوقف عندها في مقام آخر لنرى دورها في علمنة الأزهريين وتغريبهم وإفساد القضاة الشرعيين، لكن الذي يهمنا الآن أن أحمد أمين كان معجباً بعاطف بركات إعجاباً عظيماً، وكان من مواطن إعجابه به قدرته العجيبة على التشقيق والتفريع والتطويل والجدل في الموضوع مهما كان بسيطاً وواضحاً، إلى الحد الذي يستسلم فيه محدثه له ضجراً من طول جداله(2)!

صفحاتٌ معدودات فصلت بين حديث أحمد أمين عن نفوره من طريقة الأزهريين وتطويلهم فيما لا طائل منه، وعن إعجابه بالقدرة السجالية والتفريع والتشقيق والجدل لدى عاطف بركات!

كان الأزهر في زمن غروبه وانحطاطه تحت سلطة الاحتلال الإنجليزي، بينما كان عاطف بركات وقريبه سعد زغلول نجمين بين نخبة العصر، فزمانهما في إقبال وزمن الأزهر في إدبار، فصار التشقيق والتفريع وابتكار الإيراد والردّ عليها مثلبة للأزهريين منقبة للعلمانيين.

وقد أُعْجِب أحمد أمين أيّما إعجاب بتمسك صاحبه عاطف بركات بالقانون، تمسكاً لا هوادة معه ولا تسامح فيه، وسجَّل له في هذا مواقف هي في الحقيقة ليست إلا نوعاً من الظاهرية الحرفية الجامدة والتشدد الذي لا معنى له، كرفضه قبول طالب في المدرسة تزيد سنّه عن السنّ القانونية، وبلغ في إبائه أن أصرّ على تعديل القانون وقبول كل من كان في سنّه، وكرفضه منح درجة مالية لشيخٍ أزهري مع موافقة الجميع على ذلك لأنه يرى غيره أحق منه(3).

ومع ذلك، فقد تدخل عاطف بركات لمرتين على الأقل فتحايل على القانون ليحقق مصلحة تلميذه أحمد أمين، فحين تخرج وترتيبه السادس على زملائه لم يعبأ بالترتيب وعيَّنَه مع الثلاثة الأوائل مُدَرِّساً مُتَجاوِزاً حقّ الرابع والخامس ومؤثراً لأحمد أمين وهو السادس! وحين رُفِض تعيين أحمد أمين في وظيفة المُدَرِّس الثابت للقِصَر الشديد في نظره تحايل له عاطف بركات ليُعَيَّن قاضياً –وهو أمر لا يحتاج لاختبار، بل يكون بمرسوم- فيكون موظفاً ثابتاً، ثم ينتقل إلى مدرسة القضاء مكتسباً هذه الميزة(4).

ومع ذلك، فقد أُعْجِب أحمد أمين بتمسكه بالقانون وثَمَّن له في ذات الوقت تحايله على القانون من أجله! ولم يشعر بالتناقض بين موقفيه.

وأغرب من هذا أن عاطف بركات الذي كان ظاهرياً في القانون شديد التمسك بنصوصه، لا يغفر زيادة شهور في السنّ أو زيادة قروش في الراتب، كان في الوقت نفسه معتزلياً في الدين، يُسَلِّط عقله على الآية والحديث، ويأبى إلا تحكيم العقل في أي شيء وكل شيء، وقد كان هو الذي أثَّر في أحمد أمين هذا التأثير(5)، ومن قرأ مذكرات أحمد أمين وابنه جلال أمين عرف أن أحمد أمين كان في مطلعه متبتلاً عابداً حريصاً على الدين، وانتهى في آخر عمره إلى أنه كان لا يصلي ولا يصوم ويرى الإيمان شعوراً قلبياً(6)!

فتأمل كيف اجتمع لدى أحمد أمين إعجابه بمن يقدس نص القانون ويخضع لنصوصه دون اعتبار، وهو نفسه الذي لا يُسَلِّم للدين إلا أن يقتنع به عقله أو يلتمس للدين تأويلاً؟!

2- طه حسين:

وأما طه حسين فأشد ذكاء، أو لنقل: أعظم خبثاً من أحمد أمين؛ فأحمد أمين رجلٌ كسره الحزن فانطوى على نفسه ورضي بقدره، وأخذ من الدنيا ما سمحت له منها، وإذا انطوت نفسه على فكرة سعى في تنفيذها بهدوء، وتسلل إلى ذلك ما استطاع، فإن قدر وإلا سكت، وأما طه حسين فقد حوَّل ما لقيه من عنت إلى طاقة انتقام وسخرية من مجتمعه وأهله، وإذا قدر فجر، وإذا عجز تلوَّن وتراجع مسرعاً وأضمر.

لقد امتلأت مذكرات طه حسين "الأيام" بالسخط على الأزهر وما فيه، كما امتلأت بالإعجاب بالجامعة المصرية ثم الفرنسية وما فيها، وقد سَـخَّر نفسه وأصحابه حيناً من الدهر ليسخروا من الأزهر وهم في أروقته، فكانوا يجلسون فيه لا عمل لهم إلا ذلك، وكان يكتب في الصحافة يتهم شيوخ الأزهر كذباً، وغرَّهم حلم شيوخ الأزهر الذين كان آخر ما فعلوه معهم أن فصلوهم فصلاً صورياً لا حقيقياً ليتأدبوا ويرتدعوا، وسائر هذا كتبه طه بنفسه في مذكراته، ولو أنهم فعلوا عُشر معشار ذلك مع أساتذة الجامعة المصرية أو الفرنسية لوجدوا أنفسهم مطرودين بالقانون وبغير رحمة، ومع ذلك كله فقارئ مذكرات طه حسين يخرج منها وقد امتلأ سخطاً على الأزهر وإعجاباً بالجامعة وبفرنسا.

في أول عهد طه حسين بالأزهر، فاجأه الشيخ الذي سيمتحنه في حفظ القرآن بقوله: "أَقْبِل يا أعمى"، وهي كلمة سيئة لا شك، وقد وقعت من نفسه وقعاً سيئاً، ولما انتهى من امتحانه قال له: "انصرف يا أعمى فتح الله عليك"، وقد كان لهاتيْن الكلمتيْن مذاق مرير أفسدا عليه فرحته بالنجاح في امتحان الأزهر(7).

وبعد زمنٍ، ذهب طه مع بعض رفاقه إلى شيخ يلقي الدروس في بيته، بعد أن غضبت عليه السلطة، وبينما الشيخ يشرح إذ اعترض طه على ما يقوله الشيخ، وجادله، يقول طه: "فلما طال الجدال غضب الشيخ وقال للفتى في حدة ساخرة: اسكت يا أعمى، ما أنت وذاك! فغضب الفتى وأجاب الشيخ في حدة: إن طول اللسان لم يُثْبِتْ حقاً ولم يمحُ باطلاً، فوجم الشيخ ووجم الطلاب لحظة، ثم قال الشيخ لطلابه: انصرفوا اليوم فهذا يكفي"(8)، ولم يرجع بعدها طه إلى هذا الدرس.

وهكذا نرى طه قد استسلم في طفولته لهذه الإهانة، مع أننا لو حاولنا التأوَّل للشيخ الممتحن لوجدنا له سبيلاً، إذ لا يُقال لمن يراد إهانته "فتح الله عليه"، ولكننا ندع التأويل، ونقبل رواية طه كما هي مع أنه ساخط على الأزهر مما قد يجرح روايته، ثم نراه في شبابه لم يسكت ولم يستسلم بل جادل وأطال الجدل، ولما ذُكِّر بهذا الأمر اشتدّ واحتدّ وردّ على الإهانة في بيت شيخه!

ولكن هذه الإهانة نفسها ذاتها ستتكرر عليه في أول عهده بدخول الجامعة المصرية، وفي أول عهده بجامعة مونبيلييه الفرنسية؛ فعندما بلغ باب الجامعة المصرية أُوقِف على بابها ومُنِع من أن يرافقه خادمه الذي يقوده، ولم تُجد مع صاحب الباب توسلات أصحابه ولا ضيق طه بذلك، فأدخله أصحابه، ثم دخلوا إلى أحمد زكي باشا، سكرتير عام الجامعة، يشتكون له ما فعله الحارس على الباب، فإذا بالباشا السكرتير يقف في صف الحارس ويقول لهم: "النظام هو النظام.. ماذا نصنع وقد أراد الله لصاحبك ألا يشهد المحاضرات؟"(9).

واستسلم طه، استسلم في الوقت الذي كان لسانه سليطاً وكان قلمه حديداً على شيوخ الأزهر، استسلم وهو في شبابه وعنفوانه، وامتص الإهانة، ولولا أن له أصحاباً أشفقوا عليه لحُرِم الانتساب للجامعة لهذه العاهة، هذه العاهة نفسها هي التي لم تمنعه من الانتساب للأزهر، بل كان في الأزهر ما يسمى "طائفة العميان"، سخط طه أشد السخط على الأزهر وعلى الشيخ الذي قال له: "يا أعمى"، وأشفعها بـ"فتح الله عليك"، ولكنه لم يسخط مثل ذلك على الجامعة، مع أن الممتحن شيخ واحد وموقفه موقف عابر، بينما موقف الجامعة موقف مؤسسة تكافل فيها صاحب السلطة الكبير مع البواب الصغير! بل رأى طه أيامه في الجامعة "عيداً متصلاً.. تختلف فيه ألوان اللذة والغبطة والرضا والأمل، كانت تخرجه من بيئته تلك الضيقة المقلقة في الأزهر"(10)، وفي مونبيلييه جلس طه بين زملائه دون أن يخلع قلنسوته، فسمع صوت الأستاذ يقول: "أيكون زميلك هذا مكفوفاً؟ فإني أراه قد دخل الغرفة دون أن يرفع قلنسوته"(11).

ثم وجد طه صعوبة أخرى، ذلك أنه بعد أن تلقى دروس الجامعة أراد أن يكون في بعثتها إلى فرنسا، ولكن مجلس الجامعة رفض طلبه، وعرف طه حسين أن من أسباب الرفض كونه أعمى، فرفع إلى المجلس يطلب الاستثناء، ويقول فيه: "ولكن المجلس أجلّ عندي من أن يحسب لهذا الأمر حساباً، فإنه لا يمنعني أن أكون طالباً وأستاذاً، بدليل أن المجلس نفسه يقبلني طالباً منتسباً في الجامعة؛ أسمع دروسها وأجوز امتحاناتها وأنال شهادتها، وإذا كانت الطبيعة قد حالت بيني وبين كثير من نعيم الحياة، فما ينبغي أن تكون الجامعة عوناً للطبيعة على حرماني لذة الانتفاع بالعلم والنفع به"(12)، ثم يقترح طه على الجامعة أنه لن يطلب منها أجراً فوق العادة لنفقة من يرعاه ويكفله، وإنما سيتكفل هو بضغط نفقاته ليكتفي بما يُنفق على الطالب الواحد(13).

وبعد معاناة مع الجامعة، ومعاناة في النفقة، تمّ لطه ما أراد!

لكن الذي يلفت النظر هنا أن طه كان متذللاً للجامعة الظالم قانونها، حريصاً على احترام هذا القانون، في ذات الوقت الذي كان فيه ساخطاً على الأزهر مع أن الأزهر يُعامِل العميان فيه بمزايا لا تتوفّر للمبصرين، لم ير طه في زمن إدبار الأزهر وزمن إقبال الجامعة هذه المنقبة للأزهر ولا هذه المثلبة للجامعة.

وأمرٌ آخر، فإن طه الذي تعلق بالجامعة وشغف بها، وعانى معها ما عانى في الدراسة فيها ثم في التماس موافقتها وأموالها للإنفاق على بعثته، لم يتوقف كثيراً عند فضل الأزهر الذي كان طُلّابه يُنفَق عليهم فيه، فيأخذون العلم والنفقة معاً.

الخلاصة:

كان في النية أن نسرد مواقف أخرى لآخرين، لنثبت بها أن شأن الغالب والمغلوب لا يتوقف عند عموم الناس ممن ليست لهم عدة من الثقافة والنظر والتعقل، بل يشمل نجوم الموصوفين بالفكر والثقافة، ثم رأينا هذا المقال قد طال، فلعلنا أن نواصل ذلك في مقالات قادمة إن شاء الله.

وصدق الشاعر:

عطس الغني فقال ممن حوله             رحم الإله حبيبنا وأخانا

وأتى الفقير بعطسةٍ فتأففوا                من ذا الذي بزكامه آذانا

………………….

باحث في التاريخ والحضارة الإسلامية