تجارة الاستبداد على ضفتي النيل

- ‎فيمقالات

مؤلمٌ أن تسمع من معلق سياسي إثيوبي أن كل ما تراه أمامك من مشاهد معركة، وطبول حرب وتسخين مشاعر قومية، ليس أكثر من دراما مصنوعةٍ من تلك التي ينفق عليها حاكم مصر العسكري بسخاء، بقصد اختطاف الوعي العام، والوصول به إلى درجات حرارة مرتفعة، تسمح بتطويعه وتشكيله، واستعماله بمنتهى السهولة في موضوعات أخرى.

كان المحلل الإثيوبي، ياسين بعقاي، يتحدّث بسخرية من تصوير الإعلام المصري الموقف وكأن الحرب ستندلع بعد انتهاء جلسة مجلس الأمن بشأن سد النهضة (أمس)، بينما أديس أبابا واثقة من أن حربًا لن تقع، وإن أقصى ما يمكن أن تفضي إليه مباحثات مجلس الأمن هو إعادة الملف إلى الاتحاد الأفريقي.

بالفعل، يبدو باعثًا على السخرية تلك اللوثة القومية المصاحبة لانعقاد مجلس الأمن، وكأنها مباراة نهائي كئوس، أو موقعة حاسمة لن تنتهي إلا بهزيمة أحد الطرفين واستسلامه، مصر والسودان من جهة، وإثيوبيا من الجهة الأخرى، بينما الواقع يقول إن الجميع يمثلون أدوارهم المرسومة، بطريقةٍ دراميةٍ يبرع فيها النظام المصري، ولن تكون هناك حرب، أو بالأحرى لن يسمح مجلس الأمن بالتصعيد والتسخين في اتجاه هذه الحرب المتخيلة.

يعلم أصغر تلميذ في السياسة أن قرارات مجلس الأمن تكون محصلة رغبات القوى الخمس الكبرى دائمة العضوية، صاحبة امتياز "الفيتو"، بحيث يمكن لدولة واحدة منها أن تعطّل أي قرار، ولو أجمع عليه العالم بأسره. ومن أصحاب "الفيتو" الصين وروسيا، وكلاهما من المشاركين والمساهمين والمستثمرين في بناء السد الإثيوبي، كما أن هناك واشنطن ولندن وباريس، والعواصم الثلاث تشدّد في تصريحاتها على أنه لا حلول عسكرية في موضوع سد النهضة، لا في خيال قارعي طبول الحرب، ولا في الواقع السياسي. لكن البروباغندا المصرية تتخذ من خطوة الذهاب إلى مجلس الأمن موضوعًا للاستثمار السياسي، على مستوى الداخل، فتصوّر الأمر للرأي العام باعتباره انتصارًا للدبلوماسية المصرية، بحسب ما تسمّى لجنة العلاقات الخارجية فيما يسمى مجلس النواب، في إطار حشد الشعور الوطني خلف القيادة السياسية، كما تذهب أصواتٌ من النخب السياسية، الساعية إلى تدفئة علاقاتها بالسلطة التي تعبس في وجهها، وتنهرها وتعنفها وتعاقبها من وقت لآخر.

يبدو الأمر محيرًا حقًا حينما تتشارك بعض النخب التي تطلق على نفسها معارضة، والسلطة الاستبدادية الحاكمة في ابتزاز الجميع، بفزاعة سد النهضة، فيكون مطلوبًا منك، كما يريد الطرفان، أن تسكت على الظلم والدماء، وتتأهب للرقص، تأييدًا للنظام، على طبول الحرب التي لا وجود لها إلا في رؤوس مشغولة طوال الوقت باستثمار هذه الحالة من القلق القومي على مياه النيل في تحقيق أكبر قدر من المكاسب المادية والسياسية.

في موضوع سد النهضة، لا يتصوّر بعضهم أنك يمكن أن تكون ضد التعنت الإثيوبي، دفاعًا عن مصالح وطنك وأبناء شعبك، من دون أن تتنازل عن قيمك الأخلاقية، وأفكارك السياسية، وانحيازك المبدئي للعدل ضد الظلم، وللديمقراطية ضد الاستبداد.

هنا، يبدو أن الولاء للسلطة التي عرّضت حقوق المصريين في المياه للخطر مقدّم على الوفاء للنيل، وكأن الغاية الأسمى من حشد الشعور الوطني العام هو دعم السلطة، وليس إنقاذ النيل من العربدة الإثيوبية.

 السلطة من جانبها تستعمل فزّاعة التهديد الخارجي لمياه النيل وسيلةً لابتزاز المواطن ماديًا، ومعنويًا، فتستبق انعقاد جلسة مجلس الأمن بقرار حكومي بفرض رسوم مائة جنيه مصري (أكثر من ستة دولارات) على كل مواطنٍ تلقى جرعتين من لقاح ضد كورونا، مقابل الحصول على شهادة رسمية بأخذ اللقاح الذي يفترض أنه يُعطى مجانًا.

لا توصيف لهذا السلوك الاستثماري سوى أنها شطارة تجّار الحروب، ومهارة النصابين المستثمرين في الأزمات القومية، ففي لحظة فوران المشاعر الوطنية قلقًا على النيل، واستعدادًا للتضحية بالدم من أجله، يأتي التاجر الشاطر الممسك بالسلطة، ويضع يده في جيبك لاستخراج ما فيه. وفي هذه اللحظة، من يجرؤ على الاعتراض والبلد في وضع التأهب لحرب المصير؟.

وسط هذه اللوثة الوطنية المفتعلة الكاذبة، تمرّ ذكرى أولى المذابح التي نفذتها سلطة سد النهضة في طريقها للوصول إلى الحكم بانقلاب عسكري، وهي مذبحة الحرس الجمهوري التي سالت فيها دماء 60 مواطنًا مصريًا كانوا يؤدّون صلاة الفجر عند نادي الحرس الجمهوري، حين علموا أن الرئيس الذي انتخبوه تم اختطافه واعتقاله فيه، فتحرّكت الآلة العسكرية وحصدت أرواحهم حصدًا، لتتوالى بعدها المذابح، طوال شهري يوليو وأغسطس 2013.

وبما أن البلد في وضع استعداد درامي لحرب، فإن تذكّر هذه الدماء التي أريقت ظلمًا، أو الكلام عن حقوق الإنسان المسحوق تحت قرع الطبول، يصبح نوعًا من خيانة الوطن وتعريض أمنه القومي للخطر.

لماذا لا يريد الأفاقون والتجار أن يفهموا أن معارضة السلطة التي تستهين بالوطن وتهدر حقوقه ليست معارضة للوطن؟. ما الذي يمنع أن تكون مع النيل وضد الاستبداد في الوقت نفسه؟

…………………………

نقلا عن "العربي الجديد"