هل يكرر المصريون انتفاضة الخبز؟

- ‎فيمقالات

في 17 كانون الثاني/ يناير 1977 أعلنت السلطات المصرية رفع أسعار الخبز والعديد من السلع الاستراتيجية الأخرى، وذلك خلال عرضها الموازنة المالية للعام الجديد. كانت تلك الزيادات استجابة واضحة ومباشرة لتوصيات صندوق النقد الدولي لعلاج العجز في الموازنة، وللموافقة على منح مصر قرضا ماليا يساعدها في مواجهة ذلك العجز.

توصيات الصندوق في هذه الحالة معروفة ومحفوظة، وتتكرر مع كل الحالات المشابهة التي تعاني عجزا في موازناتها بين الإيرادات والمصروفات، ويتوقف أمر قبولها أو رفضها على الحكومات ومدى قدرتها على مواجهة العجز بطرقها الخاصة الأخرى، ومدى قدرتها على تسويق هذه التوصيات، بمعنى آخر مدى قدرتها على مواجهة ردود الفعل الشعبية المتوقعة.

كثيرا ما رفضت الحكومات المصرية وحكومات أخرى هذه التوصيات لخوفها من رد الفعل الشعبي، لكن حكومة ممدوح سالم ونائبه عبد المنعم القيسوني التي خاضت حوارا مع صندوق النقد لمساعدتها بقرض لمواجهة العجز المالي؛ وافقت على "روشتة" الصندوق، والتي تتضمن تقليص الدعم الحكومي للسلع الرئيسية، حيث يمثل بند الدعم السلعي جزءا ضخما في الميزانية العمومية. لم يقدح القيسوني حين عرض الموازنة الجديدة مشتملة على خفض الدعم في البرلمان من رأسه؛ فهو مجرد نائب رئيس وزراء في دولة يحكمها رئيس يتمتع بكل السلطات، ويظل رئيس الوزراء ونوابه مجرد مساعدين له.

كان الرئيس السادات شخصيا هو صاحب القرار، لكن كعادة الرؤساء في الدول الاستبدادية يتم تحميل الأعمال القذرة لرئيس الوزراء أو لأحد الوزراء؛ لسهولة التخلص منه لتهدئة أي رد فعل شعبي غاضب، وهو ما حدث مع القيسوني نفسه، بل مع الحكومة كلها.

ما إن أعلنت الحكومة قراراتها الجديدة داخل البرلمان، وما إن وصل الخبر إلى عموم المصريين عبر محطات الراديو أو صحف اليوم التالية (لم تكن هناك قنوات فضائية خاصة أو إنترنت) حتى اندلعت المظاهرات الشعبية الواسعة يومي 18 و19 كانون الثاني/ يناير 1977 في العديد من المحافظات المصرية، وأخذت بعض المظاهرات طابعا عنيفا، حتى عجزت الشرطة عن مواجهتها، فاستمرت رغم القرار الجديد للحكومة بالتراجع عن تلك الزيارات في الأسعار، وهو ما دفع الرئيس المصري للاستعانة بالقوات المسلحة.

كان الرئيس السادات لا يزال مزهوا بنصر أكتوبر الذي حققه قبل ثلاث سنوات، وكان يتوهم أن هذا النصر هو شيك على بياض له ليفعل ما يشاء بالشعب، لكن الشعب لم يكن يحتمل كل تلك الزيادات (إنما للصبر حدود)، فخرج مدافعا عن اللقمة التي يأكلها. كان الشعب ينتظر في تلك الفترة تحسنا في معيشته بعد إعلان السادات سياسة الانفتاح الاقتصادي في العام 1976، ولكن جاءته الصدمة في العام التالي بزيادات ضخمة للأسعار.

تعتبر الثقافة الشعبية المصرية الاقتراب من رغيف الخبز بمثابة إعلان حرب (يا واخد قوتي يا ناوي على موتي)، وكانت هذه القناعة هي المحرك الرئيسي للمظاهرات، وقد ساعدتها أجواء الانفتاح الاقتصادي التي أطلقها السادات، والتي شملت أيضا أجواء انفتاح سياسي ولو بشكل نسبي، حيث كان برلمان 1976 من أفضل البرلمانات تمثيلا للشعب. كما أن الشعب كان قد كسر حاجز الخوف مرتين من قبل؛ في مظاهرات 1968 ضد المتسببين في هزيمة حزيران/ يونيو 1967، ومظاهرات 1972 المطالبة بالحرب.

وبالمجمل فقد شجعت هذه الأجواء على المظاهرات التي (وفقا لوصف حسن أبو باشا وزير الداخلية الأسبق ورئيس جهاز أمن الدولة في تلك الفترة) "اقتربت كثيرا من شكل الثورة الشعبية العارمة".

يعترف أبو باشا في مذكراته (في الأمن والسياسة) بالتجاوب الشعبي الكبير مع تلك المظاهرات: "كان واضحا منذ بداية اندلاع المظاهرات، والتي بدأت في مواقع التكتلات الجماهيرية كالمواقع العمالية والطلابية بشعارات تنادي بسقوط القرارات الاقتصادية وتهاجم الحكومة؛ أن التجاوب الجماهيري مع تلك البدايات كان شاملا بحيث أخذت مواقع أخرى كثيرة في الجامعات المختلفة والمصانع والشركات تشارك في التظاهر، بل إن النساء في المنازل كن يزغردن للمتظاهرين حال مرورهم في المناطق المختلفة. وبدأت ساحة المظاهرات تغطي مدينة القاهرة من أقصى الجنوب إلى أقصى الشمال، والأمر نفسه تكرر في مدينة الإسكندرية التي غطتها المظاهرات من أقصى الغرب إلى أقصى الشرق".

يضيف أبو باشا: "كانت الظاهرة الخطيرة في ذلك اليوم الأول، أن نطاق المظاهرات على هذا الاتساع بمدينتي القاهرة والإسكندرية كان يفوق قدرات أجهزة الأمن المسئولة عن التصدي لأعمال الشغب. فعلاوة على الإرهاق الكبير الذي تعرضت له القوات نتيجة استمرار المظاهرات طوال النهار وحتى ساعة متأخرة من الليل، فقد كان هناك سبب جوهري أخر ضاعف من خطورة هذه الظاهرة، حيث كان هناك أولا عجز خطير في قوات الأمن المركزي المخصصة بصفة أساسية لمواجهة أعمال الشغب نتيجة عدم استكمال ذلك العجز في موعده، ولكن اللحظات الأكثر خطورة كانت في طريقها لتسيطر على الموقف بأكمله بداية من صباح اليوم التالي (19 يناير)، حيث بدأت المظاهرات بالأسلوب نفسه منذ الصباح الباكر في ذلك اليوم، لتبدأ أيضا من مراكز التكتلات الجماهيرية في مدينتي القاهرة والإسكندرية، ثم ليتسع نطاقها عندما تنتقل العدوى إلى مواقع أخرى، وعندما يتجاوب جمهور الشارع وفي مقدمته عناصر الغوغاء، ولكن الخطورة تتضاعف أكثر وأكثر عندما تبدأ الإخطارات تتوالى عن اندلاع المظاهرات بنفس المنطق والأسلوب نفسه في محافظات أخرى، وليتسع نطاقها قبل ظهر ذلك اليوم فيشمل تسع محافظات في الوجهين البحري والقبلي، من بينها محافظة أسوان، حيث كان يوجد بها رئيس الجمهورية الراحل منذ بضعة أيام سابقة".

انتهت انتفاضة الخبز بانتصار واضح  للشعب تمثل في تراجع السادات عن زيادة أسعار الخبز والسلع الأخرى، وإقالة الحكومة نفسها، وإن لم ينس السادات بقية حياته هذه الانتفاضة التي كان يصفها دوما بانتفاضة الحرامية، حيث يقول الكاتب الصحفي الراحل أحمد بهاء الدين في كتابه "محاوراتي مع السادات" إن السادات ذكر له أن "ما حدث في 18، 19 يناير لا يمكن السماح بتكراره مهما حدث، حتى لو لجأت إلى الحديد والنار، وهو بدوره تعبير يترجم إلى حد كبير كم كان رد الفعل عميقا وقاسيا في فكر الرئيس الراحل نتيجة ما حدث ".

لم تمض أربعة سنوات على ذلك التعهد من الرئيس السادات حتى وقعت أحداث المنصة التي راح ضحيتها الرئيس نفسه وعدد من مساعديه..

بالمناسبة، انتقد المشير السيسي في 12 آب/ أغسطس 2016 تراجع السادات عن قرارات كانون الثاني/ يناير 1977، متهما إياه بالتسبب في تأخير الإصلاح الاقتصادي بسبب خوفه من الشعب، بينما يفاخر السيسي بأنه لا يخاف مثل السادات، ولذلك فهو أعلن مبكرا أنه سيبيع كل سلعة بسعرها الحقيقي، أي دون دعم، لتصبح مصر "قد الدنيا" حسب تعبيره.

والسؤال الآن: هل يمكن أن ينتفض الشعب المصري مجددا ضد زيادات سعر رغيف الخبز التي قررها السيسي مؤخرا؟ لقد فعل السيسي أكثر كثيرا مما فعل السادات من زيادات، بطريقة الصدمة وليس عبر التدرج، بل إنه وبلغة التحدي أعلن على الملأ أنه هو صاحب هذه القرارات، ورفض أن يحملها لوزير التموين أو رئيس الوزراء كما كان يفعل سابقوه، وهو ما يعكس ثقة كبيرة منه في قدرته على تمرير قراراته مهما كلفه الأمر، أو ربما يعكس ثقته بأن الشعب تم تدجينه ولم يعد بمقدوره الاعتراض والتظاهر.

ليس لمثلي أن يتنبأ بموعد لانتفاضة الشعب، ولا أن يصدر دعوات للتظاهر، ولكن دور الكاتب والمحلل هو قراءة الواقع بمعطياته، مستخلصا منها سيناريوهات محتملة. وهنا فإن المؤكد أن الشعب المصري رافض تماما لهذه الزيادات التي تلهب ظهور الغالبية العظمى منه، والتي تعتبر رغيف الخبز المدعم هو العمود الفقري لحياتها، وقد سبق له الثورة ضدها أكثر من مرة، لكن المؤكد أيضا أن القمع الذي فرضه السيسي على المصريين يتجاوز كثيرا فمع كل الحقب السابقة في عهود عبد الناصر والسادات ومبارك، حيث أصبحت تكلفة التظاهر هي الموت برصاصة جندي شرطة أو جيش، وتسجيل الحالة انتحارا أو ضد مجهول. وقد كانت المجازر البشعة التي ارتكبها السيسي في رابعة والنهضة وغيرهما بمثابة رسالة ترهيب حقيقية للمصريين بأن المصير ذاته ينتظرهم إذا تجرأوا ضد النظام.

لكن رغم كل هذه الإجراءات القمعية غير المسبوقة، إلا أن قطاعات من الشعب المصري تحدتها عدة مرات. وكانت مظاهرات أنصار الشرعية لا تكاد تنقطع عقب الانقلاب ولمدة ثلاث سنوات تقريبا، ثم خرجت مظاهرة كبرى ضد بيع تيران وصنافير، ثم خرجت مظاهرات في 20 أيلول/ سبتمبر عامي 2019 و2020، وليس مستبعدا تكرار ذلك، خاصة أن الأمر هنا يمس حق الحياة، ولقمة العيش ذاتها، فهل يكرر المصريون انتفاضة الخبز؟؟

…………..

نقلا عن "عربي 21"