مقصد العدل

- ‎فيمقالات

العدل هو الميزان الذي أنزل الله تعالى الكتاب به ليقوم الناس بالقسط، وأمر به، قال تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} (الحديد: 25)، {إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ} (النحل: 90)، {وَالسَّمَاء رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ (7) أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ (8) وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ} (الرحمن)، فلا طغيان ولا إخسار.

جميع المعاملات في الشريعة مبنية على أصل العدل ومنع الظلم، يقول ابن تيمية: «الأصل في المعاوضات والمقابلات التعادل من الجانبين؛ فإن اشتمل أحدهما على غرر أو ربا دخلها الظلم فحرمها الله الذي حرم الظلم على نفسه، وجعله محرماً على عباده».

فالعدل مقصد للاقتصاد الإسلامي به تعمر الدنيا ويأمن المجتمع ويتآلف، وتحفظ المصالح العامة وتدفع الأضرار، وقد حافظ الاقتصاد الإسلامي على العدل في العلاقة التعاقدية بين العمال وأصحاب الأعمال؛ فلا تسويف ولا استغلال، ورسخ للعدل بين الشركاء وبعضهم بعضاً؛ فلا مغنم لأحدهما ومغرم للآخر، بل الغُنْم بالغُرْم، وحث على التوازن الإقليمي والتوازن بين الأجيال، وجعل للفقراء حقاً في مال الأغنياء من خلال فريضة الزكاة.

والاقتصاد الإسلامي لا يعرف للتوازن المصطنع أو المغشوش سبيلاً، فأباح نظامُه الرباني وحرَّم بما يقيم ميزان العدل والقسط؛ حيث أباح الكسب والإنفاق الحلال، وشرع فريضة الزكاة في جانب المأمورات، وحرم الربا والمقامرة والغرر والاحتكار والنجش والغش والتدليس والخديعة وغيرها من صور أكل المال بالباطل في جانب المنهيات.

كما وازن بين الدنيا والآخرة؛ فلا عمران للدنيا على حساب خراب الآخرة، ولا عمران للآخرة إلا بعمران الدنيا، قال تعالى: {لْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً} (الكهف: 46).

ووازن بين التنمية الإيمانية والتنمية الاقتصادية؛ {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} (الأعراف: 96)، ووازن بين الإسراف والتقتير بالاقتصاد؛ {وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً}(الفرقان: 67).

ووازن بين الجهاد في سبيل الله والسعي في طلب المعيشة؛ {وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} (المزمل: 20)، ووازن بين المادية والروحية باعتبارهما مكونات الإنسان ذاته، فلا يهمل الجوانب المادية على حساب الجوانب الروحية، أو يهمل الجوانب الروحية ويقدس الجوانب المادية النفعية، كما هي الحال في النظم الوضعية؛ {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (الجمعة: 10)، حتى لا يقع الإنسان أسير الرهبانية أو في سعير الشهوانية المادية، وبذلك لا مكان فيه لفكر الرأسمالية التي نحَّت الدين جانباً وجعلت هدفها المنفعة المادية واللذة الدنيوية، أو فكر الاشتراكية التي جعلت الإنسان ترساً في آلة وأنكرت وجود الله بتطرفها المقيت وتنكرت للدين واعتبرته أفيون الشعوب، وركزت على التطور المادي للحياة، ومحت مشاعر الإخاء في النفوس البشرية، وأشعلت نار الاقتتال بين الطبقات في المجتمعات.

كما وازن الاقتصاد الإسلامي بين المصلحة الخاصة والمصلحة والعامة؛ فلا تجاوز للفرد على مصلحة الجماعة، ولا طغيان للجماعة على مصلحة الفرد؛ ولا ذوبان للفرد ولا إهدار لحريته ومصلحته وحرمانه من ثمرة جهده وكدحه لصالح رجال الحزب كما في الاشتراكية، ولا تقديس لمصلحة الفرد ولو على حساب الجماعة والدين والأخلاق بترك الحرية له بلا قيود أخلاقية أو ضوابط إيمانية كما فعلت الرأسمالية من تقديسها لمنفعة ولذة الفرد وإشباع رغباته وممارسة نشاطه الاقتصادي بغض النظر عن كون هذه الرغبة، أو النشاط نافعاً، أو ضاراً بالصحة، أو ملوثاً للأخلاق من انحلال وفساد، طالما يحقق نفعاً مادياً.

إن الاقتصاد الإسلامي ينظر للفرد على أنه جزء لا يتجزأ من المجتمع، وينظر للمجتمع على أنه حاضن الفرد، فكل منهما يتكاملان -لا يتصارعان كما تصور المذاهب الوضعية-، وإذا كان ثمة تعارض بين المصلحتين وتعذر تحقيق التوازن أو التوفيق بينهما فيقدم الاقتصاد الإسلامي مصلحة الجماعة على مصلحة الفرد مع تعويض الفرد عما لحقه من أضرار، حيث «يُتحمل الضرر الخاص لدفع الضرر العام».

إن سيادة التوازن بالقسط في الاقتصاد الإسلامي وبما يتضمنه من التوازن بين الروح والمادة، والدنيا والآخرة، والعبادة والمعاملة، والفرد والجماعة، والتنمية والرعاية الاجتماعية، يحقق السمو للمجتمع؛ فينجو من الإفراط الذي يمزقه، والتفريط الذي يضيعه، وتعلو فيه القيم، وتحترم فيه الحوافز والرغبات والملكيات، والسعي نحو العمل الصالح الذي يقود إلى الفلاح في الدنيا والآخرة.

………

نقلا عن "مجلة المجتمع"