في ظل مؤامرات العسكر.. كيف يستفيد السودانيون من اتفاق حمدوك؟

- ‎فيعربي ودولي

في ظل الخلل الكبير في موازين القوى بين الجيش من جهة والقوى المدنية الرافضة لانقلاب عبدالفتاح البرهان، رئيس مجلس السيادة وقائد الجيش من جهة أخرى، فإن الاتفاق الذي جرى بين رئيس الحكومة الذي  جرى عزله شهرا عبدالله حمدوك مع المكون العسكري يمكن أن يمثل فرصة أخرى للمدنيين في الصراع من أجل الديمقراطية.

الجيش يهيمن على كل شيء في السودان، السياسة والاقتصاد والإعلام والثروات الطبيعية وله علاقات متشعبة محليا وخارجيا، بينما لا تملك القوى المدنية سوى الاحتجاجات والتوعية والدعوة للديمقراطية والتشبث بها من إجل إقامة حكم مدني رشيد.

الاتفاق الذي أعاد حمدوك من جديد لرئاسة الحكومة بعد انقلاب البرهان في 25 أكتوبر 2021م، قوبل برفض واسع من القوى المدنية المنضوية تحت مظلة قوى الحرية والتغيير وهي قوى يسارية باستثناء حزب الأمة القومي الذي يملك رصيدا إسلاميا لا يستهان به حيث كان زعيمه السابق الصادق المهدي رئيس الحكومة المنتخبة التي انقلب عليها عمر البشير سنة 1989م.

هذه القوى الرافضة لاتفاق حمدوك عليها مراجعة مواقفها من أجل تحقيق أعلى قدر من الاستفادة من اتفاق حمدوك من أجل التحول الديمقراطي والعمل على إنهاء الوصاية العسكرية على السلطة وأدوات الحكم. ولن يكون ذلك بتخوين حمدوك الذي يحظى بدعم دولي واسع؛ هذا الدعم هو الذي أجبر المكون العسكري على التراجع خطوات وإعادة حمدوك من جديد.

ربما يكون ذلك مقصودا بحد ذاته من أجل دق المزيد من الأسافين بين المكون المدني، وهو ما تحقق بالفعل في ظل حملة التخوين التي تواجه حمدوك واتهامه ببيع الثورة والتفريط في مبادئها وأهدافها. وقد يكون عودة حمدوك قد جرى عبر الضغوط الخارجية التي أجبرت العسكر على هذا القرار الصعب.

قد لا يكون الاتفاق مرضيا في كثير من أبعاده  وتفاصيله وحتى السياق الذي جرى فيه؛ لكن على القوى المدنية بكل تشيكلاتها أن تدرك أنها لا تملك الأدوات التي  تمكنها من إسقاط حكم المؤسسة العسكرية وتقليص نفوذها ووصايتها على الأمة والمجتمع، وأنه لولا الضغوط الخارجية الأمريكية والأوروبية على الجنرالات لما قبلوا حتى بعودة حمدوك، ولمضى انقلاب البرهان على ذات الخطى التي مر بها انقلاب السيسي؛ وكان عسكر السودان سوف يستنسخون مذابح جماعية شبيهة بما جرى في رابعة والنهضة ومصطى محمود ورمسيس والمنصة والحرس الجمهوري وغيرها في ظل نظرية "الصدمة والرعب". وقد بدأ العسكر فعلا في تنفيذ نفس المخططات وتم قتل نحو 41 سودانيا معارضا للانقلاب وحكم العسكر.

أمام هذه الحقائق لا ينبغي أن ينجرف السودانيون نحو العواطف والمثاليات دون النظر إلى الأدوات وموازين القوى؛ فاتفاق حمدوك ـ البرهان قد يكون قد جنب السودان فعلا من سيناريو الحرب الأهلية، وقد يكون قد تسبب في تأجيل الوصاية المطلقة للعسكر على الأمة السودانية والمجتمع كله. وبالتالي فإن الاتفاق قد منح للمدنيين فرصة أخرى من أجل ترتيب الصفوف ومنح المبادئ والقيم المجردة أولوية على ما سواها، لا سيما ما يتعلق بالصراع الأيديولوجي مع الإسلاميين الذين شارك قطاع منهم في الانتفاضة ضد البشير ونظامه.

قد يكون للرافضين لاتفاق حمدوك ـ البرهان  بعض الحق في ذلك؛ لكن السياسة تعتمد في  جوهرها على حجم الأدوات التي  تملكها من أجل تحقيق الأهداف المنشودة. من جانب آخر فإن الرافضين لهذا الاتفاق لا يقدمون بديلا سوى استمرار الاحتجاجات والتظاهرات ضد المكون العسكري؛ وهذا وحده ليس كفيلا بإسقاط النظام. وحتى إذا تم إسقاط حكم الجنرالات فمن يحكم بعدهم؟ ألا يمكن أن يسبب ذلك أزمة كبرى وصراعا بين القوى والأحزاب؟ لذلك من الأفضل للجميع أن يدعموا اتفاق حمدوك على ما به من علات، وأن يدعموا كل قرار يمكن أن يؤدي إلى تعزيز التحول الديمقراطي؛ وأول شيء هو ضرورة لم شمل المكونات السياسية السودانية تحت هدف واحد هو إقامة نظام ديمقراطي تعددي لا يقصي أحدا، حتى الذين كانوا أعضاء بحزب البشير باستثناء القيادات الكبرى التي ساهمت في إفساد الحكم وتكريس الاستبداد.

على السودانيين أن يجمعوا على ضرورة التوجه إلى انتخابات ديمقراطية نزيهة وعليهم ألا يتنافسوا بمنطق أيديولوجي بل على أساس سياسي بين المؤمنين بالديمقرطية والتعددية والكافرين بها. فالهدف الأسمى هو تعزيز قيمة الشرعية الانتخابية وتكريس دور الشعب في صناعة القرار، وعلى الجميع أن يدعم الفائز أيا كان؛ دون النظر إلى توجهه بل من أجل تعزيز قيمة الديمقراطية والتداول السلمي للسلطة.

ومن المؤسف حقا أن حكومة حمدوك الأولى التي تشكلت من قوى يسارية منضوية تحت تحالف الحرية والتغيير لم تظهر أي وعي بضرورة تكريس وتعزيز الديمقراطية؛ بل ذهبت إلى الاتفاق مع العسكر لتقاسم السلطة، وتجاهلت الحوار مع باقي مكونات المجتمع؛ فمارست إقصائا قد يؤخذ عليها. دون إدراك بأن الخطر إنما يأتي من الجنرالات الطامعين في السلطة وبسط نفوذ الجيش على المجتمع.

المشهد معقد؛ ولذلك يتطلب وعيا كبير بأن العسكر لن يققوا مرحبين بالتحول الديمقراطي؛ بل سيسعون إلى وضع الفخاخ والكمائن على جانبي الطريق، وسوف يدقون آلاف الدسائس والأسافين من أجل الوقيعة بين المدنيين وفق شعار "فرق تسد". فهل يدرك السودانيون هذه الأبعاد وهل يمكن أن يتعلموا من  تجارب الآخرين وعلى رأسها التجربة المصرية التي يريد تحالف الثورات المضادة استنساخها في باقي البلاد العربية؟