لم تكن شعارات الديمقراطية وانتقادات حقوق الإنسان الموجهة لنظام السيسي من قبل دول ديمقراطية غربية سوى ذرا للرماد في عيون مواطنيها فقط، وهو ما ينطبق على الوضع مع ألمانيا وعلاقاتها مع مصر.
فقد نجحت سياسات المجرم السيسي في إسكات ألمانيا ومؤسساتها عن مواجهته وقمعه العسكري وانتهاكاته لحقوق الإنسان، مع تمرير بعض الانتقادات والتوبيخ الذي لا يضر ولا يحرك ساكنا أو يعالج واقعا كئيبا على مستوى حقوق الإنسان.
حيث يتعرض المصريون الذين يعيشون في ألمانيا للتهديد والتجسس عليهم من قبل جهاز الاستخبارات في نظام المنقلب السيسي ، ويقولون إن "وضعهم أصبح أكثر خطورة منذ أن وقّعت برلين اتفاقا أمنيا مع القاهرة في عام 2017".
وقال معارضون في ألمانيا لموقع ميدل إيست آي إنهم "يواجهون خطر الاعتقال إذا عادوا إلى ديارهم، ويخشون الانتقام من عائلاتهم في مصر في إطار حملة تشنها حكومة عبد الفتاح السيسي لخنق المعارضة في الخارج".
في إحدى الحالات، قال مصري مقيم في برلين لـ "ميدل إيست آي" إنه "قُبض عليه وسُجن في مصر، بسبب مشاركته في احتجاج ضد السيسي خلال زيارة السيسي إلى العاصمة الألمانية في 2015".
وقال محمد، الذي لم يرغب، مثل الآخرين الذين تحدثوا إلى "ميدل إيست آي" ، في التعرف على اسمه الحقيقي بسبب مخاوف أمنية، إنه "قد تم تصويره في المظاهرة من قبل أشخاص يعتقد أنهم يعملون لصالح جهاز المخابرات المصري".
وقال محمد إنه "لم يكن يعتبر نفسه ناشطا سياسيا في وقت المظاهرة، لكنه قرر الحضور لأنه اعترض على استضافة ألمانيا للسيسي على الرغم من تجاهل حكومته لحقوق الإنسان، واضطهادها للمعارضين السياسيين منذ الانقلاب العسكري الذي أتى بالسيسي إلى السلطة في العام 2013".
وأثناء التظاهرة، دخل محمد في جدال مع أنصار السيسي، وخلال هذا الخلاف يعتقد أن صورته قد التُقطت، وفي أواخر عام 2015، سافر محمد إلى مصر حيث قُبض عليه واتهم وأُدين بتنظيم احتجاجات غير قانونية في مصر، ويقول إنه "لم يكن في البلاد وقت الاحتجاجات، ولكن حُكم عليه بالسجن لمدة عامين".
وقال "بعد الإدراك المتأخر، كانت فكرة السفر إلى مصر فكرة سخيفة، مضيفا واتهموني بالتظاهر في مواقع في القاهرة بينما لم أكن هناك، لقد أرادوا فقط أن يضعوني في السجن، السيسي لا يحب الناس الذين ينتقدونه".
العلاقات الاقتصادية والأمنية
وأخبر محمد "ميدل إيست آي" أنه قد أُفرج عنه وسُمح له بالعودة إلى ألمانيا بعد أن قضى نصف مدة عقوبته، وذلك إثر ضغوط دبلوماسية مارستها ألمانيا ودول أوروبية أخرى، ولكنه قال إن "توثيق العلاقات الاقتصادية والأمنية بين مصر وألمانيا، على الرغم من مخاوف حقوق الإنسان، قد زاد الوضع سوءا بالنسبة للمصريين الذين ينتقدون الحكومة".
وجاءت زيارة السيسي لبرلين في عام 2015 على خلفية سلسلة من الصفقات بمليارات اليورو التي استفادت منها الشركات الألمانية، بما في ذلك عقد بقيمة 8 مليارات دولار لتطوير البنية التحتية للطاقة في مصر وقعته شركة الطاقة الألمانية العملاقة سيمنز في مؤتمر اقتصادي عُقد في شرم الشيخ في وقت سابق من عام 2015.
كما أصبحت مصر واحدة من أكبر المشترين للأسلحة والمعدات العسكرية الألمانية، حيث أنفقت ما يقدر بنحو 900 مليون دولار في عام 2019 و 850 مليون دولار في عام 2020.
وفي عام 2017، وقعت مصر مع ألمانيا اتفاقية شراكة أمنية مثيرة للجدل، ويسر الاتفاق تبادل المعلومات الاستخباراتية والبيانات بين الشرطة الألمانية وأجهزة الأمن ووزارة الداخلية في حكومة الانقلاب، والتعاون في مجالات تشمل مكافحة الإرهاب والاتجار بالبشر والجريمة المنظمة.
ووفقا للعديد من الروايات التي سمعتها "ميدل إيست آي"، فقد تضاعفت أعداد الموظفين في السفارة المصرية في برلين تقريبا بعد توقيع الاتفاق.
وقال محمد "عندها أصبح الوضع سيئا للغاية بالنسبة لنا".
وأضاف أن العديد من المنفيين والمعارضين تحدثوا علنا أو شنوا حملات ضد اتفاق التعاون الأمني، وأن أنشطتهم لم تمر دون أن يلحظها أحد.
مداهمة منازل العائلات
وقال محمد إن "العديد من هؤلاء كانوا هدفا لهجمات إلكترونية ضد وسائل التواصل الاجتماعي وحسابات البريد الإلكتروني الخاصة بهم، وقال إنه الآن غير هاتفه بشكل منتظم لأنه شك في أن أجهزته قد تم اختراقها ومراقبتها".
وقال "حتى الآن، جميع أنشطتنا تخضع لمراقبة المسؤولين المصريين ويتم تصوير الحضور، ثم يقوم عملاء مصريون بكتابة تقارير حول ما تم مناقشته ويرسلونها بأسماء وصور الجميع، وغالبا ما يؤدي ذلك إلى استهداف أسر المتورطين".
وأشار محمد إلى أن قوات الأمن داهمت منزل أسرته في مصر في 2019، قائلا "ما أخافني هو أنه عندما داهمت السلطات منزل عائلتي وكانت تبحث عن أمي، لم يهتم أحد، لقد اتصلت بكل من أعرفه في ألمانيا من سياسيين ونشطاء ولكن لم يساعدني أحد".
وقد تحدثت "ميدل إيست آي" إلى ثلاثة مصريين آخرين في المنفى في ألمانيا، ورووا تجارب مماثلة من التهديد والمضايقة لأسرهم في مصر، تتطابق قصصهم مع القصص التي أكدها بحث أجرته هيومن رايتس ووتش.
وفي فبراير 2021، نشرت "ميدل إيست آي" تقريرا عن مداهمات على منزل عائلة معارض مصري آخر مقره حاليا في برلين، وقال المحامي الأكاديمي والناشط السياسي، تقادم الخطيب، لموقع "ميدل إيست آي" إن "قوات أمن الانقلاب داهمت منزل أسرته واستجوبت والديه حول أنشطته في الخارج".
وكان الخطيب قد فُصل من وظيفته في جامعة في مصر بعد أن استجوبه مسؤول في السفارة المصرية في برلين حول مقالات ومنشورات على مواقع التواصل الاجتماعي.
وقال عمرو مجدي، الباحث في شؤون الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في منظمة هيومان رايتس ووتش، إن "منظمة رصد حقوق الإنسان التي تتخذ من الولايات المتحدة مقرا لها ، وثقت عشرات الحالات من الغارات على منازل أسر المعارضين المنفيين منذ عام 2016".
وقال مجدي إن "الوضع يزداد سوءا، فقد منعت العائلات من السفر إلى الخارج، ومنازلهم تمت مداهمتها في منتصف الليل، وتم اعتقال أفراد عائلاتهم دون توجيه تهم إليهم، كما تم إخضاعهم لاستجوابات قاسية لنشر الخوف والترهيب".
وأضاف "نشرت المخابرات المصرية عملاء في جميع أنحاء أوروبا لمراقبة منتقدي نظام السيسي، ونتيجة لذلك، يفرض الصحفيون المصريون المنفيون الآن رقابة ذاتية على أنفسهم، ويختار الأكاديميون مواضيع أقل حساسية".
وتابع "وقد يستحوذ على اهتمام أجهزة المخابرات أيضا أشخاص آخرون من أصل مصري، مثل أعضاء الطوائف المسيحية القبطية، حيث أفادت التقارير الواردة أن القوات المسلحة المصرية تحاول جاهدة من خلال خدماتها الاستخباراتية كسب تأييد المواطنين المقيمين بألمانيا".
كما تم الكشف عن أنشطة أجهزة المخابرات المصرية في ألمانيا في تقرير للمخابرات الألمانية صدر في عام 2019، قال إن "هذه الأجهزة تعمل بشكل رئيسي من أجل اكتساب معلومات عن أعضاء المعارضة الذين يعيشون في ألمانيا، مثل أعضاء جماعة الإخوان المسلمين".
ومن بين الناشطين المصريين والناشطين في مجال حقوق الإنسان، هناك أمل في أن تنظر الحكومة الائتلافية الجديدة من يسار الوسط في ألمانيا، والتي يترأسها المستشار الألماني أولاف شولز، مرة أخرى في العلاقة الأمنية بين البلاد ومصر والأنشطة التي يقوم بها عملاء الاستخبارات المصرية على الأراضي الألمانية.
تجميد الاتفاق الأمني
فوفقا لستيفان رول، رئيس قسم البحوث لشمال إفريقيا والشرق الأوسط في معهد الشؤون الدولية والأمنية، وهو مركز بحثي في برلين يقدم المشورة للحكومة والبرلمان الألمان، تم تجميد اتفاق تبادل المعلومات الاستخباراتية مع مصر بالفعل.
وقال رول في حديث مع "ميدل إيست آي" "المسؤولون الألمان يعلمون ما يجري"، مستشهدا بمخاوف في ألمانيا بشأن التعذيب وانتهاكات حقوق الإنسان واستخدام مصر لنشرات الإنتربول لاستهداف المنشقين في الخارج.
وقال إن "السلطات الألمانية أرسلت رسالة قوية في كانون الأول 2019 عندما اعتقلت الشرطة مواطنا ألمانيا من أصل مصري، بتهمة التجسس لمصر بينما كان يعمل في المكتب الصحافي للمستشارة آنجيلا ميركل".
وفي مارس، أقر الرجل المعروف باسم أمين ك بذنبه ، وحكم عليه بالسجن مع وقف التنفيذ لمدة سنة وتسعة أشهر.
وأضاف خلال السنوات، بات واضحا جدا أن هذا الاتفاق الأمني لم يكن قابلا للتطبيق، وتعلم السلطات الألمانية أنها لا تستطيع الوثوق بحكومة السيسي.
إلا أن رول قال إن "المصالح التجارية الألمانية في مصر والرغبة المستمرة في التعاون المصري في قضايا مكافحة الإرهاب والسيطرة على تدفق المهاجرين من شمال إفريقيا إلى أوروبا عبر القوارب عبر البحر المتوسط ، جعلت من الصعب على الحكومة التفكير في اتخاذ أى إجراء أكثر صرامة ضد القاهرة".
وأضاف "تفقد ألمانيا سريعا نفوذها على مصر، النقد من العواصم الغربية، لا أعتقد أن المصريين أصبحوا يأخذون الأمر بجدية أكثر. أما الآن فالأمر يتعلق فقط بالأعمال.
سألت وزارة الخارجية الألمانية ما إذا كانت ستنظر مرة أخرى في علاقة البلاد مع مصر في ضوء التهديد الذي يواجه المنشقين المصريين في ألمانيا وأسرهم في مصر، لكنها لم تتلق ردا حتى وقت النشر.
وفي برلين، قال محمد لمعي إنه "أُرغم على تقديم طلب لجوء بعد أن حرمته السفارة المصرية من الخدمات القنصلية، وقد قُبل طلبه بعد ثلاثة أيام فقط، وقال إن هذا مؤشر على أن الحكومة الألمانية تعتني بي ، لكنه قال إنه تخلى عن أي نشاط، حرصا على سلامة أسرته وعلى صحته".
وأضاف "أنا الآن لا ألفت الأنظار وأعيش حياة هادئة، لا زلت أصارع من أجل العودة إلى مهنتي، وأعاني أحيانا من القلق والاكتئاب، لكنني على الأقل في مأمن".
https://www.middleeasteye.net/news/egyptians-germany-fear-long-reach-sisis-repression