“ريان” الأمل والألم ودروس مستفادة

- ‎فيمقالات

شهدت الإنسانية جمعاء خلال هذا الأسبوع حبس الأنفاس واختلاط مشاعر الأمل والألم بواقعة هزت العالم، وهي سقوط الطفل ريان ذي الخمس سنوات في بئر بعمق 32 مترا ولا يتجاوز قطر فوهته 45 سنتيمترا ويستمر بضيق يصل إلى 35 سنتيمترا في ثلثه الأخير، وذلك في قرية إغران بإقليم شفشاون شمال المملكة المغربية.

وعشنا جميعا في هذه اللحظات نتذكر لحظات إلقاء إخوة يوسف ليوسف في غيابات الجب، وكيف نجاه الله وإن أسرّوه بضاعة.. لحظات تحويل الألم إلى أمل والمحنة إلى منحة حينما صار بعدها باني نهضة مصر الاقتصادية وعزيزها.

كما عشنا في هذه اللحظات صور ريان وهو داخل بئر ضيق في جو قارس البرودة وهو يتنفس بصعوبة، وبعد خمسة أيام من العمل المتواصل لإخراجه من محبسه في البئر، خرج والعالم كله يترقب نجاته.. وقد اشتد القلب فرحا بخروجه ونقله في سيارة الإسعاف المجهزة، ولكن ما هي إلا دقائق معدودات وصدر بيان الديوان الملكي ليعلن وفاة ريان داخل البئر، لتتحول مظاهر الفرح إلى حرن والقلوب المسرورة إلى قلوب مكلومة، ولله الأمر من قبل ومن بعد.

ومع ذلك تبقى هذه الواقعة في حاجة إلى تحليل موضوعي للاستفادة منها على مستوى الفرد والأسرة والمجتمع والدولة، فقد كشفت تلك الأزمة عن قوة الوحدة بين الشعوب الإسلامية من طنجة إلى جاكرتا بل والإنسانية جمعاء.. فأمتنا فيها خير، وإن مزقها المستعمر كل ممزق، وجعل بينها حدودا تقيد حرية حركة أبنائها، في الوقت التي تفتح هذه الحدود لمن يحمل جوازا غربيا بلا حدود. وهذه دعوة لإزالة تلك الألغام الحدودية الوهمية التي صنعها المستعمر ورضعها أذنابه.

كما كشفت تلك الأزمة عن التكافل الاجتماعي داخل المغرب وخارجه، ففي ظل وفود الكثير من المغاربة إلى مكان الحادث، حرص أهل هذه القرية الصغيرة على توفير متطلبات الموجودين من الطعام والشراب من خلال إعداده بأنفسهم، كما ساهم أهل الخير المغاربة من ناحية أخرى بالوفاء بتلك المتطلبات لأناس توافدوا في ظل البرد الشديد تضامنا وأملا في خروج هذا الملاك الصغير، ولكن كان لله ما أراد. كما بدا التكافل الاجتماعي كذلك خارج المغرب من خلال تكفل بعض أهل الخير العرب بتوفير عمرة مجانية لوالد الطفل ووالدته.

كما كشفت تلك الأزمة عن قدراتنا الداخلية إيجابا وسلبا، وإن كانت عقدة الخواجة تطاردنا أم تعيش معنا! فلا شك أن فريق الإنقاذ بذل جهدا كبيرا وملحوظا وواصل الليل بالنهار لإنقاذ ريان. وأهل مكة أدرى بشعابها لا سيما في ما يتعلق بالأرض وطبيعتها وما يصلح معها، ولكن في الوقت نفسه كان عدم الإفصاح الرسمي هو سيد الموقف إلا بعد وفاة ريان، وتساءل البعض: كيف وقع ريان في البئر؟ ومن المسؤول عن ذلك؟ ولماذا لم تتم تغطية فوهة البئر من قبل؟ ولماذا تأخر الإنقاذ ليصل إلى خمسة أيام؟ ولماذا لم تتم الاستفادة من خبرات الدول الإسلامية الشقيقة التي لها باع كبير وخبرة عميقة في موضوع الأنفاق والإنقاذ والتقنية المتعلقة بها كتركيا؟ بل لماذا لم يقدم الحليف الاستراتيجي الفرنسي على الأقل الدعم التقني؟!! ولعل التحقيقات تكشف الإجابة عن تلك التساؤلات.. وهذا ليس جلدا للذات، فما قدمه فريق الإنقاذ وفق إمكاناتهم يشكرون عليها، ولكن تنبغي الاستفادة من ذلك في المستقبل.

كما كشفت تلك الأزمة عن آلاف ريان الذين يعيشون ذل القهر والتشرد والقتل من أطفال سوريا وفلسطين والروهينجا وكشمير وتركستان الشرقية وغيرها، فوجدنا أطفالا يموتون في الخيام في سوريا من شدة البرد، ووجدنا أطفالا يؤخذون من حضن أمهاتهم اللاجئين في الغرب تحت مسمى سوء المعاملة لإخراجهم من دينهم الذي فطروا عليه، فضلا عما تفعله الصين بأطفال تركستان الشرقية، وتفعله الأنظمة العربية الجائرة من مكايدات سياسية بحبس الأطفال، وكذلك حبس أبائهم وأمهاتهم ظلما وعدوانا بتهم معلبة جاهزة تخالف العقل والمنطق.

وأخيرا كشفت تلك الأزمة عن البئر العميقة التي نعيش فيها جميعا.. إنها بئر الحياة التي تسرقنا.. إنها بئر الضيق في دنيا لا وسع لها إلا في رحاب الله.. إنها بئر التخلف الذي تعيش فيه أمتنا وقد رهنت ثرواتها لغيرها واعتمدت على الغرب في تلبية حاجاتها وكبلت نفسها بالديون وحرمت شعوبها من حريتها وكرامتها، وأبى حكامها لشعوبها إلا الوقوع في أسر هذا البئر.

رحم الله ريان وكل ريان في بقاع بلاد المسلمين.. وجعله ذخرا لوالديه في باب الريان.. في جنات النعيم وربط على قلبهما بالصبر والثبات.. وعزاؤنا لوالديه وللشعب المغربي الشقيق، وإنا لله وإنا إليه راجعون.

…………..

نقلا عن "عربي 21"