رغم أن إقالة النائب العام الأسبق عبد المجيد محمود كان مطلبا للثوار في 2012، بعد سلسلة البراءات التي قررها عبد المجيد ونيابته التي كانت أحد أذرع مبارك ونظامه، لتبرئة مبارك ورموز نظامه من الفاسدين من دماء المصريين في كل ميادين الثورة، بل أخرج عبد المجيد محمود أحمد عز وفتحي سرور وغيرهم من السجون، ولم تحكم أي محكمة على المخلوع مبارك بحكم بات إلا في القضية الوحيدة التي قدمها القضاء بعد إزاحة عبد المجيد، وهي قضية القصور الرئاسية.
ومع تتالي مسلسل الاختيار 3، المُلفِق للأكاذيب السياسية والتاريخية، وفي حلقة الخميس الماضي، والتي تركزت على تشويه الرئيس الشهيد محمد مرسي في تعاطيه مع القضاة ، وخاصة إقالته لعبد المجيد محمود النائب العام الفاسد، الذي كان حجر العثرة الأشد أمام القصاص لدماء الشهداء .
وعلى الرغم من دستورية قرار مرسي، الذي كان يرى أن سلطة عبد المجيد محمود والدولة العميقة، تعيق عمل الدولة المصرية وتؤبد لدولة العسكر العميقة، وعلى الرغم من إقالة مرسي للنائب العام، إلا أن تعامل مرسي كان حضاريا وأكثر تأدبا مما يفعله السيسي مع قضاة اليوم، حيث عينه سفيرا لمصر بدولة الفاتيكان.
مذابح السيسي
بينما السيسي يتعامل بأعنف الوسائل مع مخالفيه من القضاة، مع البون الشاسع بين ما يفعله القضاة اليوم وأمس، حيث إن القضاة الذين خالفوا السيسي اليوم كانت مواقفهم وطنية وتسعى للحفاط على مقدرات مصر، كرئيس الجهاز المركزي للمحاسبات القاضي هشام جنينة، الذي كشف فسادا بـ600 مليار جنيه في مؤسسات الدولة السيادية خلال عام من حكم السيسي، فكان جزاؤه الضرب وإسالة دمه بشوارع القاهرة الجديدة، ثم اعتقاله وسجنه، وهو ما لم تناقشه من قريب أو بعيد دراما المخابرات الخادعة للمصريين.
ومن جنينة إلى قضاة محكمة القضاء الإداري الذين انقلب عليهم السيسي وأبعدهم مع حركاته القضائية غير القانونية عبر تعديلات تشريعية مخصوصة جعلته يتحكم بالسلطة التشريعية، التي باتت عبثا ومجالا خصبا لتحكم السيسي وقمعه، بلا أي مقاومة أو حتى انتقاد من أحد.
ومنذ انقلاب السيسي انتهج السيسي أساليب قمعية غير شريفة أو نزيهة مع قضاة مصر، وحولهم للدراسة بالأكاديميات العسكرية كالمرشحين للعمل الدبلوماسي، لتلقي دورات عسكرية تحت ذريعة الأمن القومي، وأدخل تشريعات جديدة قلبت موازين العدالة والتعيينات ورئاسة الهيئات القضائية، حتى صار السيسي المتحكم الأول في السلطة القضائية، ضاربا باستقلال القضاء عرض الحائط.
أكذوبة الاستقلال
وركز السيسي منذ انقلابه العسكري على القضاء على مكتسبات القضاء من استقلال مالي وإداري، وألغى بقرارات متتابعة وفق خطة مدروسة، مكتسبات مهمة خرج بها القضاة من عهد حسني مبارك، خصوصا ضد مجلس الدولة، وكان المجلس ساحة معتادة للتفاعل السياسي والقانوني الذي تزامن مع الثورة، وسارع إلى تحقيق أهدافها الأولى استجابة للحراك الشعبي، ابتداء من حل الحزب الوطني الحاكم والمحليات، مرورا ببطلان عقود الخصخصة وفرض رقابة على السلطة التنفيذية في حالة الطوارئ، ووصولا إلى قضايا مست المجلس الأعلى للقوات المسلحة الحاكم آنذاك، مثل تجريم كشوف العذرية للمعتقلات، والتي كان السيسي أول عضو بالمجلس يبررها في تصريح نادر له للإعلام الأجنبي في 2011.
ويضاف إلى تلك الخطوات التضييق على القضاء العادي، الذي ساهم عبر دوائر مختلفة في الاستئناف والنقض في إدانة رموز نظام مبارك ماليا واقتصاديا ووصمهم بالفساد، على عكس رغبة السلطة الحاكمة، وعلى رأسهم حسني مبارك ونجلاه متخطيا في أحيان كثيرة محاولات الأجهزة التنفيذية للتعتيم والتلاعب بغرض الحماية والتضليل، وكان تخوّف السيسي منذ البداية قائما من وجود جيوب ثورية أو مستقلة داخل الجسد القضائي تستغلها المعارضة السياسية والحقوقية لتحقيق أهدافها، أو أن تساهم الأحكام الصادرة عن تلك الجيوب في إشعال حراك ضد النظام، تحديدا بعد توقيعه اتفاق ترسيم الحدود البحرية مع السعودية في 8 إبريل 2016.
أحكام تيران وصنافير
حينها تلقت محكمة القضاء الإداري بعد ساعات من التوقيع دعاوى قضائية لبطلان التنازل عن جزيرتي تيران وصنافير، وأسفر الحراك القانوني عن حكمين تاريخيين ببطلان التنازل صدرا عن القضاء الإداري والمحكمة الإدارية العليا في يونيو 2016 ويناير 2017، وهما قراران دعما بشدة أصوات معارضي السيسي في وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي وميادين التظاهر، ما مثل في حينه أزمة كبرى هددت تماسك النظام وسيطرته، إلى أن استطاع بتدخل استثنائي من المحكمة الدستورية العليا وقف هذا المد، بقرار أصدره رئيسها عبد الوهاب عبد الرازق رئيس مجلس الشيوخ الحالي في يونيو 2017 بوقف تلك الأحكام وتبعه حكم صريح بإلغاء آثارها في مارس 2018 أصدره رئيسها حنفي جبالي رئيس مجلس نواب الانقلاب الحالي.
السيطرة شعار المنقلب
واتخذ السيسي بعد أزمة تيران وصنافير قرارا إستراتيجيا بالتعامل مع القضاء بشكل مختلف، وكان أول شأن قضائي خالص سعى للسيطرة عليه هو تعيينات رؤساء جميع الهيئات، ووضع حد لنظام الأقدمية المطلقة التاريخي، الذي كان يوصل أحيانا شخصيات مناهضة للأنظمة الحاكمة المتتابعة منذ الخمسينيات من القرن الماضي، وكان يتسبب في إطلاق يد رؤساء الهيئات في اختيار مساعديهم ورؤساء الدوائر، مستغلين سلطاتهم الإدارية التي لا يراجعهم فيها أحد، كوضع قضاة أصحاب أفكار ثورية ليبرالية أو يسارية أو ناصرية على رأس دوائر هامة، كما حدث في الأحكام السابق ذكرها وقضية تيران وصنافير، فضلا عن القلق من إمكانية أن تؤدي قاعدة الأقدمية المطلقة المعمول بها في القضاء، منذ نشأته إلى وصول ذوي الرأي والأفكار إلى رئاسة الهيئات كما كان سيحدث مع المستشار يحيى دكروري، صاحب حكم بطلان التنازل عن جزيرتي تيران وصنافير في مجلس الدولة، والمستشار أنس عمارة عضو تيار الاستقلال في محكمة النقض، والمستشار محمد خيري طه في المحكمة الدستورية العليا وغيرهم.
تعيين رؤساء الهيئات القضائية
كما أصدر السيسي عام 2017 قانون تعيين رؤساء الهيئات القضائية قبيل اختيار دكروري وعمارة بأقدميتهما لرئاسة الهيئتين، والذي أتاح للسيسي اختيار رئيس كل هيئة على ضوء التقارير الأمنية، التي تطورت فيما بعد إلى مقابلات شخصية مع أقدم القضاة في مكاتب الأمن الوطني والمخابرات العامة والرقابة الإدارية، في وضع اعتبره عموم القضاة إهانة لهم ولمنصة القضاء ذاتها.
وتحسبا للحكم بعدم دستوريته أدخل النظام مواد ذلك القانون المعيب في الدستور لتقنين وضع غير طبيعي، وتضمنت التعديلات الدستورية الصادرة في أبريل 2019 تطبيق القاعدة السلطوية ذاتها على المحكمة الدستورية العليا، بالتالي بات رئيس الجمهورية هو من يعين جميع رؤساء السلطة القضائية، متعمدا إهدار الأقدمية، وليصبح جميع المختارين مدينين له بفضل الاختيار، وأوفياء بعدم الخروج عن سياسة الدولة في كل المجالات.
ومن خلال تحكم السيسي المطلق بتعيينات رؤساء الهيئات القضائية، صار يختار بشكل مسبق أعضاء المجلس الأعلى للجهات والهيئات القضائية، الذين ستوكل إليهم، وفق النص الدستوري المعدل ، مناقشة الشؤون المشتركة للهيئات وأعضائها والتعيينات فيها وإبداء الرأي في تعديلات القوانين المنظمة لها.
أما الشأن الثاني فهو التحكم السلطوي المباشر في الاختصاصات، وبدأ ذلك منذ خريف 2014 بإصدار قانون مشكوك في دستوريته حتى الآن، يحيل إلى القضاء العسكري التابع لوزير الدفاع عددا كبيرا من الأبرياء بتهم الاعتداء على المنشآت والمرافق العامة، بدلا من المحاكمة أمام قاضيهم الطبيعي وفقا للدستور.
ثم شهد التعديل الدستوري الأخير عام 2019 الخصم من اختصاصات مجلس الدولة، لتُطلق يد البرلمان في التشريعات من دون اشتراط مراجعته الدستورية والقانونية عليها، ثم إضافة اختصاص الرقابة على قرارات المنظمات الدولية والمحاكم الأجنبية الصادرة في مواجهة مصر إلى المحكمة الدستورية العليا، من دون سند دستوري لذلك في مخالفة للاتفاقيات الدولية التي وقعت عليها مصر.
تخريب الأجيال الجديدة من القضاة
أما الشأن الثالث الذي تدخل فيه السيسي، الأكثر حيوية لنظامه على المدى البعيد، فهو التحكم الكامل بالعناصر المُختارة للتعيين في القضاء بعد إكمال دراستها الجامعية وتغيير خلفياتها الثقافية والمعرفية بشكل كامل. وبالتالي أصبح الجسد القضائي أقرب للعسكري والشرطي، في إطار رؤية السيسي له كذراع للسلطة التنفيذية ومرفق خدمي، وليس كسلطة مستقلة تعمل لصالح الشعب وتراقب السلطتين الأخريين وترشد عملهما.
وتم إخضاع جميع الهيئات بإلحاق المرشحين الناجحين في المقابلات الشخصية تمهيدا للالتحاق بالعمل بالهيئتين، للدراسة في الأكاديمية الوطنية للتدريب التابعة للمخابرات، بل واستخدام الأكاديمية كأداة ترشيح أخيرة ونهائية لاختيار القضاة، شأنهم في ذلك شأن المتقدمين للعمل الدبلوماسي والوظائف الحكومية الأخرى.
ورضخ مجلس الدولة ومجلس القضاء الأعلى لهذا التوجه بعد تلقيهما تأكيدات بأنه من المستحيل التصديق على تعيين قضاة جدد أو أعضاء بالنيابة العامة من دون إخضاعهم للدورات التدريبية، ويعني هذا الأمر تقليص سلطة إدارة الهيئات في الاختيار، وأن الآلية التي فُرضت على مجلس الدولة تكمن في إبلاغ أسماء المقبولين الذين اجتازوا الاختبارات والمقابلات الشخصية، ثم ترشيحهم من قبل الجهات الأمنية والسيادية والرقابية، قبل إلحاق المجازين أمنيا منهم بالأكاديمية، وفي النهاية لا يتم تعيين إلا من اجتازوا هذه الدورة.
وفي التعيينات الأخيرة بمجلس الدولة تحديدا، أُجريت للمرشحين دورات تدريبية بالأكاديمية الوطنية التابعة للمخابرات العامة، وبعد ظهور النتيجة أُعيد إجراء التحريات الأمنية والرقابية على أقارب الخريجين المقبولين، حتى الدرجة الرابعة، في مخالفة لأحكام سابقة من المحكمة الإدارية العليا بحظر مؤاخذة المتقدمين بأفعال وجرائم ارتكبها أقارب لهم، أو بتصنيفات أمنية مزعومة للأقارب، ونتج عن هذه العملية استبعاد نحو 60 شخصا من المقبولين، ومنهم أبناء بعض القضاة المصنفين من قبل الأمن الوطني كمعارضين للنظام، بل شارك أحدهم في كتابة حكم أول درجة في قضية تيران وصنافير.
ومن ضمن التدخلات السافرة للسيسي التي يتجاهلها كتبة دراما المخابرات، والتي ستكتب يوما ما في التاريخ، ما قام به السيسي على المدى الشخصي بسلسلة تعيينات عائلية، لاقاربه وأبنائهم في القضاء المصري "المستقل سابقا" حيث عين شقيقه أحمد رئيسا لوحدة مكافحة غسيل الأموال وتمويل الإرهاب ، كما عين نجله وابنته وزوجة ابنه وعددا آخر من عائلة السيسي والأُسر المرتبطة بها في النيابة العامة والنيابة الإدارية وهيئة قضايا الدولة.
ورغم كل تلك الجرائم يأتي السيسي وإعلامه ومخابراته ليتحدثون عن أن السيسي عدل المائل، وأنه حافظ على استقلال القضاء، موجهين الشتائم والسباب لمرسي، الذي أقال نائبا عاما مجرما كان عمود الثورة المضادة، وأهدر دماء الأبرياء من المصريين الثوار وحرر الفسدة من السجون، فأين العقل والعقلاء في زمن انقلاب الموازين ؟ ولكن يبقى الرهان الوحيد على الشعب المصري، الذي عانى ظلم العسكر والسيسي ورأوا بأم أعينهم كيف أن أحكام القضاء يتم تلقيها عبر رسائل السامسونج من قبل دائرة السيسي الاستخباراتية الضيقة، بل صار القضاء ألعوبة بيد السيسي.