د. سليمان صالح يكتب: لماذا تصنع أجهزة المخابرات الشائعات؟

- ‎فيمقالات

أجهزة المخابرات هي الفاعل الرئيس في صنع الشائعات ونشرها، وقد قامت خلال القرن العشرين بتطوير أساليب صياغة الشائعات بهدف زيادة تأثيرها على الشعوب واستخدامها في الحرب النفسية.

ويعتبر صلاح نصر (1920-1982) من أهم الذين أسهموا في تطوير الحرب النفسية واستخدام الشائعات. كان عبد الناصر قد كلفه عام 1956 بتأسيس جهاز المخابرات العامة المصرية، وقد قام هذا الجهاز بالكثير من الأدوار في السياسة والاقتصاد والإعلام والفن.

وكان اسم صلاح نصر يثير الرعب في مصر حيث تنسب له الكثير من قصص تعذيب السياسيين المصريين في السجون؛ ولم يكن الهدف من التعذيب نزع الاعترافات فقط، ولكن الهدف قهر السجين نفسيا، كما أن انتشار قصص التعذيب كان يتم بشكل مقصود لإثارة خوف الشعب المصري، وإرغامه على الخضوع للسلطة.

ألّف صلاح نصر كتاب "الحرب النفسية.. معركة الكلمة والمعتقد"؛ الذي يعتبر مرجعا مهما يمكن أن يكشف لنا دور أجهزة المخابرات في تطوير الحرب النفسية، حيث اعتمد فيه على الكثير من الدراسات من علوم مختلفة، والتزم بالمناهج والأدوات العلمية.

كان كتاب صلاح نصر نتيجة لدراسة متعمقة لأساليب الحرب النفسية وتاريخها وتطورها؛ حيث تضمن الكثير من الأمثلة لاستخدام الدعاية في الحروب، وكان من أهم الأمثلة التي تضمنها منشورات نابليون عندما قام بغزو مصر عام 1798، حيث إن تلك المنشورات تعطينا صورة واضحة لأساليب الحرب النفسية المستخدمة في التاريخ.

فعندما دخل نابليون بجيوشه أرض مصر عام 1798 عمل على اجتذاب قلوب الأهالي والتودد إليهم بشتى الطرق، فكان يصدر المنشورات باللغة العربية مفتتحة بالآيات القرآنية يؤكد فيها على احترامه للدين الإسلامي والمسلمين والأقباط، وأنه حليف للسلطان ولا يقصد إلا محو سلطة المماليك وإنقاذ الأهالي من استبدادهم وظلمهم.

قرر نابليون أن يوجه منشورا للشعب المصري جاء فيه:

"بسم الله الرحمن الرحيم، من أمير الجيوش الفرنساوية خطابًا إلى كافة أهالي مصر الخاص والعام. نعلمكم أن بعض الناس الضالين العقول الخالين من المعرفة وإدراك العواقب، أوقعوا الفتنة والشرور بين القاطنين في مصر، فأهلكهم الله بسبب فعلهم ونيتهم القبيحة، والباري سبحانه وتعالى أمرني بالشفقة والرحمة على العباد.

فامتثلت أمره وصرت رحيما بكم شفوقا عليكم، ولكن حتى كان حصل عندي غيظ شديد وغم شديد بسبب تحريك الفتنة بينكم، ولأجل ذلك أبطلت الديوان الذي كنت قد رتبته لنظام البلد، والآن توجه خاطرنا إلى ترتيب الديوان كما كان، والعاقل يعرف أن ما فعلناه بتقدير الله تعالى وإرادته وقضائه، ومن يشك في ذلك فهو أحمق وأعمى البصيرة.

واعلموا أيضا أن الله قدر في الأول هلاك أعداء الإسلام وتكسير الصلبان على يدي، وقدر في الأزل أن أجيء من المغرب إلى أرض مصر لهلاك الذين ظلموا فيها، وإجراء الأمر الذي أمرت به، واعلموا أيضا أن القرآن العظيم صرح في آيات كثيرة بوقوع الذي حصل، وأشار في آيات أخرى إلى أمور تقع في المستقبل، وكلام الله في كتابه صدق وحق لا يتخلف، واعلموا أيضا أنني أقدر على إظهار ما في نفس كل أحد منكم لأنني أعرف أحوال الشخص، وما انطوى عليه بمجرد ما أراه، وإن كنت لا أتكلم ولا أنطق بالذي عنده، ولكن يأتي وقت ويوم يظهر لكم بالمعاينة أن كل ما فعلته وحكمت به فهو حكم إلهي لا يرد".

ووزع منشور نابليون بونابارت على المصريين في 16 رجب 1212هـ، وبالطبع لم يستجب المصريون لنابليون ومنشوراته، فعمل على التودد أكثر وأكثر، واستغل قرب الشهر الكريم من البدء، وأخذ يبالغ في التقرب من المسلمين، وعندما حل موعد موكب الرؤية لاستطلاع هلال شهر رمضان انتهز نابليون الفرصة ليتقرب من المصريين بعد أن فشل في اجتذابهم بالمنشورات، فأمر بالمبالغة في الاحتفال وتفخيم الموكب وتزيينه تملقا للمسلمين.

علق صلاح نصر على هذه المنشورات بقوله: إننا لم نطل الوقوف أمام هذا المثال إلا لما فيه من عبرة لأبناء هذا الجيل، فالمستعمر مهما كان غرضه خبيث شرير، قد يتخذ شكل الحمل الوديع وهو حية ملساء تحمل سموم الفتك والدمار.

وسائل الحرب النفسية

بعد استعراض تاريخ الحرب النفسية؛ حدد صلاح نصر وسائلها الفعالة فيما يلي:

  1. الخداع عن طريق الحيل والأوهام.
  2. إثارة القلق باستخدام وسائل غير مألوفة.
  3. الشتائم.
  4. افتراءات العدو، وعرض قضيته التي يحارب من أجلها.
  5. خلق قوة خاصة جبارة لا تقهر.
  6. التهديد بواسطة التسليح.
  7. بث الذعر، وإطلاق الشائعات.
  8. التحقير من قوة العدو.
  9. الإغراء والتضليل والوعد.
  10. استغلال الخلافات الدينية والعقائدية.
  11. الإرهاب.

أهمية الدعاية في الحرب النفسية

يرى صلاح نصر أن الدعاية تحتل مكان الصدارة في الحرب النفسية؛ حيث يتم استخدام وسائل الاتصال الجماهيرية في نشر الدعاية، وأن المخابرات تقوم بدور مهم في الحملات الدعائية، وبرهن على ذلك بالتجربة البريطانية بعد الحرب العالمية الأولى؛ كما استخدم التجربة الألمانية خلال الحرب العالمية الثانية لتوضيح دور المخابرات في الحرب النفسية على المستوى الداخلي؛ لاستمالة الرجل العادي وتملق الجماهير والقيام بالعروض التي تدل على القوة، ثم استخدام "الوحشية الباردة" التي لا يهمها كل ما يحدث في سبيل تحقيق أهدافها.

التجربة الألمانية كمرجع في تكتيكات الحرب النفسية

كان إعجاب صلاح نصر واضحا بالتجربة الألمانية في مجال الدعاية خلال الحرب العالمية الثانية؛ حيث جعلت هذه الدعاية الشعب راضيا عن القيام بالحرب العدوانية وتفتيت خصومها للحصول على النصر.

يرى صلاح نصر أن الألمان حققوا انتصارات في مجال الدعاية من أهمها:

  1. في المجال السياسي: بجعل كتلة كبيرة من الرأي العام الدولي يرى أن مستقبل العالم يتوقف على الاختيار بين الشيوعية والفاشية.
  2. في الميدان السيكولوجي: باستخدام "الذعر الكامل"، وجعل الشعب الألماني نفسه يخشى من تصفية الشيوعية له، كما تم استخدام أفلام عمليات الحرب الخاطفة لتحطيم المعنويات، وتسبب ذلك فيما يسمى بالانهيار العصبي للأمم، وذلك بإبقائها دائما في حالة شك وعدم تيقن مما يمكن أن يحدث لها غدا.

    وصف صلاح نصر الشائعات قائلاً "إنها سلاح رهيب من أسلحة الحرب النفسية تفتك بمعنويات الشعوب وتهدف إلى شل فكر الإنسان وجعله ينقاد كقطيع الغنم الذي يهيئه راعيه نحو المستقبل المجهول أو ينطق نطق الببغاء الذي يردد ما لا يعقله وما لا يفهمه"

حرب الإذاعة

يرى صلاح نصر أن ألمانيا وبريطانيا وجدتا في الإذاعة وسيلة فعالة يمكن توجيهها لكل دول أوروبا على الموجات العادية، وجذب انتباه أكبر عدد ممكن من المستمعين والتأثير في معتقداتهم وعواطفهم وولائهم سواء أكانوا أصدقاء أم محايدين أم أعداء.

يضيف صلاح نصر: "إن الألمان قاموا (بحرب الإذاعة)؛ حيث كان الراديو الألماني يعد المستمعين أحيانا بأشياء لا يستطيع أن يحققها العسكريون".

تعريف مبتكر للحرب النفسية

يقدم صلاح نصر تعريفا جديدا للحرب النفسية: بأنها الحرب الموجهة ضد الفكر والعقيدة والشجاعة والثقة والرغبة في القتال؛ فهي حرب دفاعية هجومية تحاول أن تبني معنويات الشعب بينما تحطم في الوقت نفسه معنويات العدو.

كما أن الحرب النفسية جزء من الحرب الشاملة؛ تشن قبل الحرب وفي أثنائها وفي أعقابها، ولا تخضع لرقابة القانون ولا لعادات الحرب وغالبا ما يظهر نجاحها أو فشلها بعد شهور بل ربما بعد سنوات من تنفيذها، ومع هذا يمكن أن يكون النجاح ساحقا برغم صعوبة تقديره كميا كما أن الفشل قد يكون قاتلا وإن كان غير ملموس، إنها حرب تعلن ضد عقول الأعداء وليس ضد أجسامهم.

الشائعات والمخابرات

خصص صلاح نصر بابا كاملا في كتابه للشائعات يشمل 5 فصول حيث وصفها قائلاً "إنها سلاح رهيب من أسلحة الحرب النفسية تفتك بمعنويات الشعوب وتهدف إلى شل فكر الإنسان وجعله ينقاد كقطيع الغنم الذي يهيئه راعيه نحو المستقبل المجهول أو ينطق نطق الببغاء الذي يردد ما لا يعقله وما لا يفهمه".

هذا هو وصف صلاح نصر للشائعات وبناء على هذا التوصيف يرى أنها واحدة من أهم الوسائل التي أقلقت الحكام منذ فجر التاريخ وجعلت بعضهم يتجسس على رعاياه بموظفين متخصصين ينقلون لهم ما يهمس به الناس من شائعات وكانت قصص كل يوم تعتبر مقياسا للشعور العام وعند الضرورة كان هؤلاء الموظفون يقومون بترويج الشائعات المضادة.

هناك الكثير من الأدلة والشهادات على أن صلاح نصر قد طبق ذلك؛ فانتشرت ظاهرة التجسس في المجتمع المصري خاصة في دور الصحف والجامعات، وتم استخدام الكثير من الموظفين لكتابة تقارير عن زملائهم، وأدى ذلك إلى زيادة حالة الخوف والرعب في النفوس.

كيف تؤثر الشائعات على المجتمعات؟

يرى صلاح نصر أن الشائعات ذات خطورة قومية على المجتمع وهي وباء اجتماعي وظاهرة يجب على الشعب أن يتكاتف في مقاومتها والقضاء عليها.

ويقدم صلاح نصر مثالا للشائعات؛ حيث يقول "في صيف 1964 قامت الرجعية والانتهازية بالتعاون مع الاستعمار والصهيونية بترويج شائعة عن محاولة قيام انقلاب عسكري بمدينة الإسكندرية ضد نظام الحكم" وتقول الشائعة: إن المؤامرة اكتشفت قبل حدوثها بفترة وجيزة وقد ضبطت مفرقعات تحت منصة الرئيس وتم إعدام 50 ضابطا من المتآمرين، كما تم القبض على بعض كبار المسؤولين لاشتراكهم في تلك المؤامرة.

هناك روايات وشهادات حول قيام صلاح نصر بالتحكم في سلوك جمال عبد الناصر عن طريق نقل معلومات زائفة له بوجود انقلاب ضده وأن جهاز المخابرات هو الذي يقوم بحمايته، ويطلب منه أن يذهب ليبيت في الإسكندرية ويستجيب عبد الناصر لذلك دون أي محاولة للتأكد من صحة المعلومات وفي الوقت نفسه يقوم صلاح نصر بالقبض على مجموعات من السياسيين المصريين وتعذيبهم للاعتراف بالقيام بالتخطيط لقلب نظام الحكم.

فهل صنعت المخابرات هذه الشائعة التي استخدمها صلاح نصر كمثال في كتابه؟!

الشائعة والفكاهة

يعتبر صلاح نصر أن النكات صورة من الشائعات، وأن هناك علاقة بين الشائعة والفكاهة، فبالرغم من أن الشائعة عبارة عن قضية مطروحة للتصديق وتنتشر مبسطة حتى يستسيغها الناس، فإن هناك كثيرًا من القصص تنتشر على أنها شائعات فتكون من وحي الخيال الصرف ولا تستهدف أكثر من الضحك لكننا نرفض هذا الرأي ونرى ضرورة التمييز بين الشائعة والنكتة، فالناس يقومون بإنتاج النكتة بهدف السخرية من الحكام والأنظمة وهم يعرفون أنها غير حقيقية.

بالرغم من أهمية كتاب صلاح نصر فإنه من الواضح أن جهاز المخابرات خصص معظم جهوده في الحرب النفسية وصنع الشائعات ونشرها داخل المجتمع المصري وليس في الخارج، وأن الأساليب التي وصفها صلاح نصر في كتابه وتلك التي أخفاها قد تم استخدامها لقهر شعب مصر ونشر الخوف والرعب فيه، حتى تم تقطيع العلاقات بين العائلات خوفا من عملاء جهاز المخابرات الذين يرصدون ما يدور داخل الغرف المغلقة، وداخل العقول والقلوب.

الانهيار الحتمي

جاءت هزيمة عام 1967 لتكشف الكثير من الحقائق، وفضّل عبد الناصر التضحية بصلاح نصر وعدد من رجاله الذين تم تقديمهم للمحاكمة في قضية انحرافات جهاز المخابرات التي أوضحت أن صلاح نصر وجهازه استخدما السلطة لقهر الشعب المصري وارتكاب الكثير من جرائم التعذيب الذي كان يتم باستخدام الوسائل النفسية.

لقد ترك جهاز المخابرات مهامه الأساسية في حماية أمن مصر وكشف مخططات العدو لينصرف لحماية أمن الرئيس والنظام باستخدام أساليب الحرب النفسية التي كان من الواضح أن صلاح نصر كان خبيرا بها كما يوضح كتابه.

تمكن صلاح نصر من بناء جهاز مخابرات قوي تمكن بدوره من إشاعة الرعب والخوف في نفوس المصريين، وابتكار أحدث الأساليب في التعذيب حتى تعرض الجميع لصدمة قاسية وهزيمة مذلة عندما تمكن الجيش الصهيوني أن يحتل القدس والضفة الغربية وسيناء والجولان بعد أن دمر الطائرات المصرية في مواقعها.

إن هذا يوضح أن التقدم العلمي والتقني في بعض المجالات مثل الحرب النفسية وصنع الشائعات وترويجها يحمل الكثير من المخاطر التي يمكن أن تؤدي إلى الهزائم الناجمة عن انتشار الفساد وإثارة خوف الشعوب وقهرها.

لذلك يحتاج العالم إلى قدر من الحكمة ليكبح جماح أجهزة المخابرات، وترشيد استخدام أساليب الحرب النفسية.

……….

نقلا عن "الجزيرة نت"