قالت صحيفة "فايننشال تايمز" البريطانية إن الجيش المصري امتص فعليا الأموال الساخنة التي استُخدمت لدعم الإنفاق الحكومي الهائل، وكان الكثير منه من خلال الجيش، مما أدى إلى امتصاص العملة الأجنبية.
وأضافت، في تقرير، أن "السيسي دفع الجيش للنمو حيث تم تكليفه بالعشرات من مشاريع البنية التحتية وتشجيعه على نشر بصمته الاقتصادية عبر قطاعات لا تعد ولا تحصى، من المعكرونة إلى الأسمنت والمشروبات، مما أدى إلى إزاحة القطاع الخاص وإثناء الأجانب عن استثمار مباشر".
وأوضح التقرير أن السيسي اعتمد على الجيش كأداة رئيسية لتوجيه خططه الاقتصادية منذ أن ورث اقتصادا محطما بعد الإطاحة بالزعيم الإسلامي محمد مرسي، أول رئيس منتخب ديمقراطيا للبلاد، قبل تسع سنوات.
واستدركت أن "السؤال الذي يطرحه رجال الأعمال والمحللون المصريون هو ما إذا كانت صدمة الأشهر الستة الماضية ستكون كافية لإجبار السيسي على اتخاذ أصعب قرار اقتصادي بالنسبة له: تقليص دور الجيش في الاقتصاد.
واستعرض التقرير آراء الاقتصاديين حول إمكانية ازهار القطاع الخاص في ذلك الوضع واجتذاب البلاد معدلات أكبر من الاستثمار الأجنبي المباشر لجلب مصادر أكثر استدامة للعملة الأجنبية.
وقال أحدهم (مايكل حنا) "من الصعب الاسترخاء، سيكون هذا انعكاسًا أيديولوجيًا كبيرًا إلى حد ما.. في عهد السيسي، زادت الامتيازات العسكرية؛ كما ازداد دورهم في الاقتصاد، وقد أدى ذلك إلى ظهور رابحين حقيقيين، بما في ذلك داخل الجيش والضباط السابقين، إنها نوع من المحسوبية".
ونقلت عن رجل أعمال (فضل إخفاء هويته) خوفًا من تداعيات الاستبداد: "نحن بحاجة إلى وقف النزيف" مضيفًا "إذا واصلنا السير على هذا النحو فسنذهب الى نادي باريس [للتخفيف من عبء الديون]، ونقلل من قيمة أصولنا، ونبيعها فيما بعد وقد نصل الى حالة الإفلاس".
ولفتت إلى أمل لدى بعض رجال الأعمال أن تكون الأزمنة أيقظت "الحكومة المهتزة" لتغير المستقر والمسار الاقتصادي، بعضهم يرى أن الأزمة نعمة مقنعة، ورأت أنه إذا كان السيسي سيقلل من تأثير الجيش، فإنه سيغضب قاعدته الانتخابية الأساسية والمؤسسة الأقوى في البلاد بكل ما يرتبط بها من مصالح مكتسبة.
واستعرضت الصحيفة آراء اقتصاديين ومنهم (جيسون توفي) من كابيتال إيكونوميكس، قال: "لن يتخلى الجيش عن مصالحه بسرعة كبيرة، وعلينا أن نضع في اعتبارنا أن الجيش قريب جدًا من السيسي، فقد يضغط عليه إذا شعر أن مصالحه تتعرض لضغوط".
أما مايكل حنا، المحلل في مجموعة الازمات الدولية، فقال "إن تقليص دور الجيش "سيتطلب إعادة توصيل وإعادة ترتيب أجزاء كبيرة من الاقتصاد" ويضيف: "وهذا صعب".
ما بعد الحرب الروسية؟
وأشار التقرير إلى لجنة الأزمات التي شكلها "القادة المصريون" يستعدون للتداعيات العالمية للصراع، لجنة تجتمع أسبوعياً وتركز على ضمان الأمن الغذائي لسكانها البالغ عددهم 100 مليون نسمة، ويعتمد عشرات الملايين منهم على الخبز المدعوم.
وأضاف "مصر تعتمد على روسيا وأوكرانيا في ما يقرب من 80٪ من القمح المستورد، وكان الخوف من أن تكون واحدة من أكثر البلدان عرضة لنقص الإمدادات وزيادة أسعار المواد الغذائية".
وأوضحت أن الأمن الغذائي لم يكن هو السبب في أنه نقطة الضعف الرئيسية للدولة المصرية بل كان مديرو الصناديق الأجنبية الحذرين الذين قاموا بسحب حوالي 20 مليار دولار من الدين المصري في فبراير ومارس، مما تسبب في أزمة العملة الأجنبية.
وقال أشخاص مطلعون على مناقشات الحكومة إن السيسي، الذي لا يبدي أي معارضة، صُدم عندما اكتشف نقاط الضعف في النظام.
وعما حدث في 8 مارس 2022، بعد جولة السيسي الخليجية "أودعت الرياض خمسة مليارات دولار في البنك المركزي المصري. كان ذلك جزءًا من خطة إنقاذ خليجية أوسع، حيث أودعت الإمارات 5 مليارات دولار وقطر 3 مليارات دولار".
والتزمت دول الخليج الثلاث باستثمار مليارات الدولارات للاستحواذ على حيازات الدولة في الشركات المصرية من خلال صناديق الثروة السيادية، وقد أنفق صندوق الاستثمارات العامة في المملكة وصندوق أبو ظبي للاستثمارات العامة بالفعل حوالي 4 مليارات دولار في 2022 للاستحواذ على حصص في شركات، بما في ذلك أحد البنوك، وشركات للكيماويات والأسمدة والخدمات اللوجستية والتكنولوجيا.
وعلق مصرفي مصري عما كان سيحدث لو لم تكن دول الخليج قد نجحت في إنقاذ القاهرة: "أخشى أن أفكر" مضيفًا "السيسي كان غير سعيد للغاية وقد فاجأته درجة الهشاشة في النظام المالي".
وعن قرض الصندوق في مارس 2022 أيضًا، لجأت القاهرة إلى صندوق النقد الدولي للحصول على الدعم، وحصلت أخيرًا قرضًا بقيمة 3 مليارات دولار، وووعد الصندوق ب5 مليارات دولار أخرى من مانحين متعددي الأطراف وإقليميين.
ونقلت عن اقتصادي آخر: "إنها تنتج وتبيع لبقية العالم أقل بكثير مما تستورده، مما يؤدي الى تمويل ذلك عبر الديون، ويأتي الكثير من استهلاك الدولة خارج الميزانية في شكل استثمار عسكري، وإذا نظرتم إلى الكثير من هذه المشاريع العملاقة فإن الأمر يتعلق بتمويلها العسكري، إنهم يضيفون إلى فاتورة الاستيراد ويخلقون تدفقًا صافياً للدولارات الى الخارج".
بيع أصول بـ"الجملة"!
ونقلت عن السيسي إجابته عن السؤال: "هل شركات الدولة معروضة [للبيع]؟ نعم.. والله والله جميع سرايا القوات المسلحة معكم [متوفرة للبيع]"، وقبل ذلك بشهرين، قبل السيسي استقالة محافظ البنك المركزي طارق عامر، الذي انتقده كثيرون لدوره في هذه الازمة، و"كان المحافظ قريبًا جدًا من الجيش وكان يلبي جميع احتياجات الجيش دون قيود"، بحسب مصرفي.
السيسي في أبريل 22، أعلن "الحكومة ستجمع اربعين مليار دولار على مدى أربع سنوات من خلال بيع أصول مملوكة للدولة"، وأنها "ستبدأ في بيع حصص الشركات العسكرية في البورصة "قبل نهاية العام".
تشكك في الوعود
وتشكك مايكل حنا في دعوة السيسي إلى "حوار سياسي" مع حركات الشباب والأحزاب السياسية، ونظامه يسجن عشرات الآلاف وهو الأكثر قمعًا منذ عقود، وقال حنا : "هناك الكثير من الشكوك والإحباط من ذلك، ومخاوف من أنه مجرد عرض للعلاقات العامة، لكنه يعكس حقيقة وجود ضغط؛ إنهم يدركون أن هذه اللحظة مختلفة ويحتاجون إلى الاستجابة بشكل مختلف ".
وأضاف التقرير لأن "وثيقة "ملكية الدولة" تهدف إلى تحديد القطاعات التي تتصور فيها دورًا لكيانات الدولة، بما في ذلك الجيش، وحيث يجب تقليص وجوده أو انسحابه تمامًا، ورفع معدل مشاركة القطاع الخاص في الاقتصاد إلى 65٪ على مدى السنوات الثلاث المقبلة، لكن بعد أشهر من الإعلان عن المبادرة لأول مرة، لم يتم نشر الوثيقة النهائية، بحسب الصحيفة البريطانية.
وأشارت الصحيفة إلى سبب التشكك أن "السيسي قد تعهد في السابق ببيع حصص في الشركات العسكرية على مدى السنوات الثلاث الماضية، لكن الخطاب لم يقابله مبيعات الأصول على أرض الواقع"!
البحث عن "الجمهورية الجديدة"
ولفت التقرير إلى المديح المغرق من صندوق النقد الدولي ورجال الأعمال والمصرفيين في عام 2016 على أداء حكومة الانقلاب"بعد الدفع من خلال إصلاحات صارمة، بما في ذلك خفض دعم الطاقة وتقليص فاتورة أجور الدولة، لتأمين قرض ذلك العام بقيمة 12 مليار دولار وتحقيق الاستقرار المالي. وتخفيض قيمة الجنيه، لنصف قيمته في ذلك العام.
ونقلت عن رجال الأعمال واقتصاديين القول إن النظام لم يفعل الكثير لتحسين مناخ الاستثمار في بلد عانت منه طويلا بيروقراطية غير عملية، وسوء الخدمات اللوجستية وفساد، موضحين أنه بدلاً من ذلك، مضى السيسي قدما في مشروعات بنية تحتية تقدر قيمتها بنحو 400 مليار دولار حيث وعد ببناء "جمهورية جديدة".
الدولة البوليسية
وقال التقرير إنه مع تحول البلاد من دولة بوليسية إلى دولة يقودها الجيش، وسع الجيش انتشاره عبر الاقتصاد، وسجل الاقتصاد بعض من أعلى معدلات النمو في المنطقة، لكن الاقتصاديين حذروا من أنه كان مدفوعًا بشكل أساسي بالبناء وقطاع الطاقة والعقارات. واستعرضت إشارة إلى أن مشاريع أخرى "هباء لا يمكن للدولة أن تتحملها".
واسفرت عن معدلات فقر تتصاعد بعد تخفيض قيمة العملة وظل استثمار القطاع الخاص دون المتوسطات التاريخية.
ويعتقد العديد من رجال الأعمال الذين رحبوا بانقلاب السيسي لإعادة مظاهر الاستقرار إلى البلاد، أنه دخل إلى المنصب مريبًا ومحتقرًا للقطاع الخاص.
وأنه مع توسع الوجود العسكري في الاقتصاد، نمت مخاوف تقول إنه يؤجل الاستثمار المحلي والأجنبي.
لم تكن القضية مجرد حجم الانتشار المتزايد للجيش، ولكن الخوف بين رجال الأعمال من أنهم قد يستيقظون ويجدون أنفسهم يتنافسون مع مؤسسة لا يمكن المساس بها وتسيطر على جزء كبير من أراضي مصر، ويمكنها استخدام العمالة المجندة والإعفاء من بعض الضرائب.
وقبل عامين، كانت هناك مؤشرات أولية على أن النظام بدأ يستمع إلى مخاوف الشركات عندما تم تكليف الصندوق السيادي المصري ببيع حصص في 10 شركات مملوكة للجيش.
وحددت اثنتين، "وطنية"، التي تشغل حوالي 200 محطة خدمة، و"صافي"، وهي شركة لتعبئة المياه والأغذية، كأول أصول ستخصخصها لكن لم يتم بيع أي منهما.
كانت أولوية النظام خلال السنوات التسع الماضية هي الحفاظ على الاستقرار الاجتماعي وسحق المعارضة لمنع أي تكرار لانتفاضة 2011 الشعبية التي أطاحت بالرئيس السابق حسني مبارك. لقد تم قمع أي تلميح للاضطراب بلا رحمة.
وأن السيسي نفسه حذر في مؤتمر عقد في اكتوبر 2022 من مخاطر الاعتماد بشكل كبير على حلفائه الخليجيين وقال: "حتى الإخوة والأصدقاء، هم الآن مقتنعون بأن الدولة المصرية غير قادرة على الوقوف مرة أخرى وأن سنوات من الدعم والمساعدة أدت إلى خلق ثقافة الاعتماد عليهم لحل الأزمات والمشاكل"
ونقلت عن (اكاديمي مصري) لم تسمه ".. نؤمن بهذا التصور الخيالي بأننا أكبر من أن نفشل، هذا ليس صحيحًا، بالنسبة لهم [المانحين الخليجيين]، الفشل هو عودة الإخوان المسلمين للسيطرة مرة أخرى" ويضيف "لكن هناك كل أنواع الكوارث التي يمكن أن تحدث والتي يمكن لأشقائنا العرب التعايش معها بسعادة.. مثل ان تكون [مصر] راكدة وفقيرة وتزداد سوءا".
ويضيف: "الأزمة بمثابة جرس إنذار، لكن هل سيستيقظون في التوقيت المناسب"؟