السيسي وشماعة الزيادة السكانية .. متى يدرك الجنرال أنه أساس المشكلة؟!

- ‎فيتقارير

في مؤتمر السكان الذي استضافته العاصمة الإدارية الجديدة مؤخرا راح جنرال الانقلاب العسكري عبدالفتاح السيسي يعلق فشله على شماعة الزيادة السكانية، بعدما تراجعت شماعة الإرهاب بالإعلان عن القضاء على تنظيم “ولاية سيناء” مع بداية العام الجاري “2023م”.

يقول السيسي: «يجب أن يعلم الجميع أن قدرات الدولة لا تستطيع تقديم أكثر مما كان؛ بسبب الزيادة السكانية وعدم وجود موارد كبيرة لدى مصر»، مضيفا «ئلزيادة السكانية أخطر قضية تواجه مصر حاليا»، ورفض السيسي حرية تعداد المواليد داخل الأسرة ، معلقا على معدلات الإنجاب التي تناسب قدرات الدولة حاليا، بأنه يجب ان تنخفض إلى “400 ألف” مولود سنويا، حتى تنخفض المعدلات من 2.1% سنويا إلى 1.2 أو 1.5%، وذلك لفترة زمنية قد تصل إلى 20 عاما، وبعد كدة تسمح بأن يكون نمو معدل المواليد أكثر من ذلك”، مشيرا إلى تجربة الإيرانيين والأتراك والصينيين في ذلك.

وراح السيسي يدافع عن سياساته ومشروعاته العبثية مدعيا أنه تم إنفاق 10 تريليونات جنيه على البنية الأساسية اللازمة لمواجهة الزيادة السكانية في مصر. موضحا أن تعداد مصر  حاليا “105” ملايين بخلاف نحو 9 ملايين أخرى أجانب وافدين؛ ما يمثل عبئا على موارد الدولة  وبنيتها التحتية.

وأمام الاتهامات التي تلاحقه بإهدار أموال الدولة على مشروعات غير منتجة وأنه كان يجب استثمار هذه الأموال في مشروعات إنتاجية (زراعية وصناعية وتجارية) لتوفير الملايين من فرص العمل وتحقيق الاكتفاء الذاتي من الغذاء؛ راح السيسي يدافع عن هذه المشروعات بقوله: «العاصمة الإدارية الجديدة كانت جزءًا من فكرة متكاملة للدولة المصرية للاستعداد للانطلاق إلى مستقبل أفضل لصالح مجتمعها، والـ24 مدينة الجديدة عبارة عن محاولة للخروج من النطاق الضيق للدلتا والوادي».

ويرى مراقبون أن مجرد استضافة القاهرة للمؤتمر العالمي للسكان في ظل تفاقم أزمتها الاقتصادية وزيادة معدلات الفقر في البلاد هو بحد ذاته برهان على مدى سفه النظام وعدم كفاءته لإدارة البلاد؛ إذا كيف تستضيف “8” آلاف شخص من جميع دول العالم على نفقتك الخاصة وتتكفل بسفرهم وتنقلاتهم وإقامتهم وإطعامهم على مدار أيام المؤتمر الأربعة ثم تتحدث عن قلة موارد الدولة؟!

 

السكان نعمة أم نقمة؟

ومنذ انقلاب يوليو 1952م، تتبنى منظومة الحكم في مصر النظرية المسيحية الغربية فيما يتعلق بجدوى الزيادة السكانية وتأثيرها على قطاعات التنمية، وهي النظرية التي صاغها الاقتصادي الانجليزي الشهير القس (توماس روبرت مالتوس ــــ14 فبراير 1766 – 23 ديسمبر 1834) في القرن الثامن عشر، والتي ادعى فيها أن العالم لابد أن يشهد كل ربع قرن ما يشبه المجاعة, وذلك نتيجة ميل سكانه للزيادة وفق متوالية هندسية ، بينما يميل الغذاء إلى الزيادة بحسب متوالية عددية. ومن ثم فإن وجود فجوة بين السكان والموارد الغذائية أمر لا مفر منه، وازدياد هذه الفجوة اتساعا بمرور الزمن أمر لا فكاك عنه. وانتهى (مالتوس) لحل ينافي الفطرة الإنسانية لهذه المشكلة من خلال مطالبته بالعزوف عن الزواج أو تأجيله بهدف الحد من الزيادة السكانية، وإلا فإن الطبيعة ستحصد الرؤوس الزائدة من خلال الأمراض والأوبئة نتيجة سوء التغذية، أو بالحروب نتيجة للتصارع على الموارد الغذائية.

مشكلة هذه النظرية أنها تنظر إلى العالم بنظارة “علمانية صرفة”، وهو ما يتصادم مع الرؤية الإسلامية التي ترى أن الله أودع في الأرض رزقها بما يكفي عدد السكان والخلائق كلها مهما بلغوا في أي لحظة من لحظات عمر الأرض، وأن الله تكفل برزق كل الخلائق: { وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ}، ويقول: { وَفِي السَّمَاء رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ}. بل إن الله نهى عن قتل الأولاد خشية الفقر{ وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئا كَبِيرًا}.

لذلك حين دشن رائد علم الاجتماع  الإمام عبدالرحمن بن خلدون في مقدمته الشهيرة  في  القرن الرابع عشر الميلادي، «مقدمة ابن خلدون»، نظريته حول السكان، بناها على الرؤية الإسلامية التي تعتبر  الزيادة السكانية قوة تنموية، حيث أولى أهمية كبرى لعدد السكان في تحقيق التنمية، واعتبره من مقوماتها ودلالتها، فالزيادة السكانية في نظره تؤدي إلي زيادة درجة العمران. وقلتها في بداية الدولة تعيق التنمية وفي نهايتها تضعفها. وعبر “بن خلدون” عن ذلك بالقول في مقدمته: «الترف (الرفاهية) يزيد الدولة في أولها قوة إلى قوتها، والسبب في ذلك أن القبيل إذا حصل لهم الملك والترف كثر التناسل والولد والعمومية، فكثرت العصابة واستكثروا أيضاً من الموالي والصنائع وربيت أجيالهم في جو ذلك النعيم والرفه، فازدادوا بهم عدداً إلى عددهم وقوة إلى قوتهم بسبب كثرة العصائب حينئذ بكثرة العدد»‏. ويضيف: «عظم الدولة واتساع نطاقها وطول أمدها على نسبة القائمين بها في الكثرة والقلة»، وأضاف أيضاً: «ألا ترى إلى الأمصار القليلة الساكن كيف يقل الرزق والكسب فيها أو يفقد؛ لقلة العمال الإنسانية، وكذلك الأمصار التي يكون عمرانها أكثر يكون أهلها أوسع أحوالاً وأشد رفاهية؟».

 

 

التوازن بين السكان والموارد

فالمشكلة السكانية هي عدم التوازن بين عدد السكان من جهة والموارد والخدمات المتاحة من جهة أخرى، بمعنى زيادة عدد السكان دون تزايد مماثل في فرص العمل والتعليم والمرافق الصحية، وارتفاع المستوى الاقتصادي، وبالتالي تظهر المشكلة بشكل واضح عندما تكون معدلات الزيادة السكانية تفوق معدلات التنمية، ولا تتماشى مستويات التنمية مع معدلات الزيادة السكانية؛ أي أنه لا ينظر إلى الزيادة السكانية باعتبارها مشكلة في حد ذاتها، وإنما ينظر إليها في ضوء التوازن بين السكان والموارد. فهناك كثير من البلاد لديها كثافة سكانية عالية لكنها لا تعاني من أزمة سكانية؛ لأن لديها حكومة رشيدة نجحت في تحقيق التوازن بين السكان والموارد.  وقد تجد بلدا قليل أو متوسط الكثافة السكانية لكنه يعاني من أزمة لأن لديها حكومة فاشلة لم تتمكن  من تحقيق التوازن بين معدلات التنمية ومستويات الزيادة السكانية.

هناك وجه آخر للمشكلة السكانية فهي لا تتعلق فقط بزيادة معدلات السكان عن معدلات التنمية بل يمكن أن يكون هناك مشكلة تتعلق بزيادة معدلات التنمية عن معدلات الزيادة السكانية؛ وبالتالي تعاني مثل هذه البلدان من مشكلة “النقص السكاني”، وهو ما يترتب عليه نقصان في الأيدي العاملة وبالتالي نقصان في معدلات الإنتاج وتراجعا في مستوى الاقتصاد.

إزاء ذلك فإن مواجهة المشكلة السكانية في حالة تزايد معدلات السكان عن معدلات التنمية إنما يمكن أن يتحقق بطريقتين: الأولى، هي زيادة معدلات التنمية بما يواكب معدلات الزيادة السكانية، وهو ما يتطلب كفاءة عالية من جانب نظام الحكم من أجل تحقيق معدلات التنمية المنشودة لتحقيق التوازن بين عدد السكان واستثمار الموارد المتاحة. الطريقة الثانية،  هي الحد من التزايد السكاني، وإجبار المواطنين على الحد من النسل بالتشريعات والعقوبات المغلظة والضغط الحكومي والإعلامي وتوظيف المؤسسات الدينية بما يخدم أجندة نظم الحكم. وهذه الطريقة لا تلجأ إليها إلا النظم المعروفة بالاستبداد و الديكتاتورية؛ لأنها غالبا تفتقد إلى أدنى معايير الحكم الرشيد، وتدير بلادها بالبروباجندا والدعاية الإعلامية من جهة أو البطش والقمع الأمني من جهة ثانية.

الخلاصة أن  المشكلة تظهر حين يتولى حكم الناس سفيه ضيق الأفق يرى نفسه أذكى الناس وأكثرهم دراية وخبرة ومعرفة، لذلك يحذر القرآن من ذلك {وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَاء أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا}. فأمثال هؤلاء يبددون الثروات ويهدرون الأموال على مشروعات وهمية عبثية، وينشرون الفقر بين الناس، والعجيب أنهم يحسبون أنفسهم يحسنون صنعا! وتتفاقم المشكلة حين تتحول السلطة إلى أداة إعاقة أمام المجتمع بوضع العراقيل البيروقراطية أمام المشروعات الخاصة أو بفرض المزيد من الضرائب بما يرهق الناس ويدفعهم إلى اكتناز أموالهم بدلا من استثمارها وتنشيط حركة دورة المال في المجتمع.