في تصعيد لافت للأزمة بين نقابة المحامين والسلطات القضائية، فجّرت قرارات محاكم الاستئناف الأخيرة موجة غضب واسع في أوساط المحامين والمواطنين، بعد الإعلان عن قوائم رسوم تقاضي جديدة وُصفت بأنها "باهظة"، و"تمثل عدوانًا مباشرًا على حق التقاضي"، وتأتي في سياق عناد متواصل من حكومة المنقلب السفيه السيسي تجاه واحدة من أعرق المهن القانونية في البلاد.
وبينما يغيب أي تعليق رسمي من وزارة العدل أو مجلس القضاء الأعلى، تكشف التسعيرات الجديدة عن تحوّل المحاكم تدريجيًا إلى كيانات جباية، تُحمِّل المواطنين أعباء غير مبررة، وتُكرِّس العدالة كخدمة مدفوعة لا حق دستوري، ما يهدد بانفجار اجتماعي صامت في بلد يرزح تحت أزمات اقتصادية خانقة.
عدالة تُمول مكافآت القضاة الموالين للسيسي
المثير في القرارات الجديدة، وفق مراقبين، ليس فقط ارتفاع الرسوم إلى مستويات غير مسبوقة – مثل 200 جنيه لشهادة عاجلة، و60 جنيهًا لصورة من أوراق الحبس أو الإفراج – بل ما تمثله هذه الرسوم من تمويل ضمني لمكافآت قضاة يُتهمون بالولاء الكامل للسلطة التنفيذية، على حساب الحياد والاستقلال.
ويشير محامون إلى أن السلطة القضائية لم تعد تمارس دورها الطبيعي، بل تحوّلت – بحسب تعبيرهم – إلى "جهاز إداري مأجور يعمل بتعليمات سياسية"، ويستشهدون بتجارب سابقة لقضاة مثل الراحل شعبان الشامي، الذي عُرف بإصداره لأحكام إعدام بالجملة، وضجّت مواقع التواصل الاجتماعي بالفرح عند وفاته، باعتباره رمزًا للظلم القضائي في عهد السيسي.
نقابة المحامين: "نرفض مد اليد إلى جيب المواطن"
نقيب المحامين عبد الحليم علام، لم يتردد في التصعيد، وأعلن خلال مؤتمر صحفي أن النقابة لن تتوانى عن اللجوء إلى رئيس الجمهورية إذا لم تتراجع الجهات المعنية عن "سياسات الجباية"، مؤكدًا أن "حق التقاضي يُحوَّل إلى امتياز لمن يملك فقط، في ظل رسوم لا تستند إلى قانون، وتضع العدالة في مصر على المحك".
وأضاف أن استمرار فرض أعباء مالية خارج الأطر التشريعية ينذر بـ"تفتيت منظومة العدالة"، و"تهديد مباشر للأمن والسلم الاجتماعي".
انتهاك للدستور وتهميش للفقراء
بحسب القانونيين، فإن فرض هذه الرسوم دون سند قانوني واضح يمثل خرقًا مباشرًا للدستور الذي يكفل الحق في التقاضي دون تمييز. ويقول أحد المحامين في استئناف القاهرة: "الموكلون من محدودي الدخل بدأوا بالتراجع عن قضاياهم بسبب كلفة الإجراءات، ما يُعد انتكاسة لمفهوم العدالة ذاته".
ويرى مراقبون أن هذه الأزمة ليست معزولة، بل تتصل بسياق أوسع من القرارات التي تستهدف تقليص فرص الطبقات الفقيرة والمتوسطة في اللجوء إلى القضاء، بينما يُمنح القضاة امتيازات مادية متضخمة، يُنظر إليها باعتبارها مكافآت سياسية.
احتقان متراكم.. وغضب يتوسع
ومع تصاعد الاحتجاجات، أعلنت نقابات فرعية للمحامين الامتناع عن سداد الرسوم أو تقديم مذكرات لبعض القضايا، وطالبت أعضائها بتوثيق حالات تعطل التقاضي بسبب الإجراءات المالية الجديدة.
وفي محاولة لاحتواء آثار الإضراب الأخير، تعهدت النقابة العامة بسداد رسوم إعادة قيد القضايا المشطوبة، داعية إلى تنسيق مع الجهات القضائية لضمان عدم ضياع حقوق المتقاضين.
حقوق الإنسان تحذّر.. والأحزاب تدخل على الخط
من جانبه، قال محمد أنور السادات، عضو المجلس القومي لحقوق الإنسان، إن قرار فرض الرسوم مثّل "صدمة قانونية ومجتمعية"، مشيرًا إلى أن المجلس خاطب وزارة العدل ورئيس البرلمان للمطالبة بوقف هذه السياسات التي تضع "كلفة باهظة على العدالة، وتهدد الاستقرار المجتمعي".
وأشار إلى أن رفض هذه السياسات لم يقتصر على المحامين، بل امتد إلى أحزاب ونقابات مهنية أخرى ترى أن ما يجري يؤسس لنمط خطير من التربح من الخدمات العامة، خارج أي رقابة تشريعية.
عدالة معطوبة.. في ظل دولة الأمن لا القانون
ويرى معارضون أن ما يجري في ملف العدالة لم يعد مجرد "سوء إدارة"، بل انعكاس لنمط حكم قائم على إفراغ مؤسسات الدولة من مضمونها، وتحويل القضاة إلى أدوات تنفيذية في يد النظام، يُستخدمون في تصفية الخصوم السياسيين، كما فعل القاضي شعبان الشامي في قضايا الرأي والمعارضين.
إن الإصرار على تحميل المواطنين كلفة عدالة مسيّسة، في بلد ترتفع فيه نسبة الفقر وتتراجع فيه ثقة الناس في استقلال القضاء، لا يمكن تفسيره إلا كجزء من هندسة سياسية جديدة، تقطع الطريق على أي مساحة للإنصاف أو المحاسبة.