تعود ذكرى مظاهرات الانقلاب على الشرعية الدستورية وانقلاب 3 يوليو 2013 إلى الواجهة هذا الأسبوع، وسط تساؤلات ملحة تتجاوز الشعارات الرسمية والاحتفالات الإعلامية التي تحاول تجميل وجه السلطة. فبعد 12 عامًا من الزج بملايين المصريين إلى الميادين بدعوى "تصحيح المسار"، تكشف الوقائع أن ما جرى لم يكن سوى باب واسع لإعادة مصر إلى الوراء، وإلحاقها بمعسكر التبعية والانهيار، لا التحرر والتنمية.
لقد خرجت الحشود في صيف 2013 بتحريض من الدولة العميقة، وبتنسيق مكشوف مع عواصم خليجية تخوفت من نجاح تجربة ديمقراطية في قلب العالم العربي. وسرعان ما ظهر الوجه الحقيقي للمخطط، حين قفز عبد الفتاح السيسي إلى السلطة بدبابة العسكر، ليبدأ مسلسلًا طويلًا من التراجع والانهيار، لم يسلم منه أي قطاع من قطاعات الدولة، حتى بات السؤال المشروع اليوم: هل كانت 30 يونيو بوابة تسليم مصر للصهيونية العالمية، وإعادة هندسة المنطقة لصالح إسرائيل عبر وكلائها في أبوظبي وتل أبيب؟
دولة تُباع بالمزاد العلني
تُحكم مصر اليوم من قبل نظام عسكري حول البلاد إلى شركة مفلسة تُباع أصولها بالمزاد. ميناء بعد ميناء، وأرض بعد أرض، من شرق بورسعيد إلى سفاجا، ومن الموانئ البحرية إلى أراضي العاصمة الإدارية، تُمنح للإمارات وغيرها، مقابل قروض أو وعود بالاستثمار. واللافت أن الإمارات، وهي دولة لا تساوي محافظة مصرية من حيث المساحة أو السكان، باتت تتحكم في البنية اللوجستية والخدمية والصحية لمصر. دولة معروفة بارتباطاتها الوثيقة مع إسرائيل، ما يثير علامات استفهام خطيرة عن الجهة الحقيقية التي باتت تدير القرار المصري.
من ثورة إلى مأساة
خرج البعض يوم 30 يونيو مطالبًا بتحسين أوضاعهم المعيشية، لكن ما جرى بعد الانقلاب كان العكس تمامًا. ففي الوقت الذي يحتفل فيه الإعلام الرسمي بـ"إنجازات" مزعومة، يودع المصريون ضحايا الجوع والإهمال، كما حدث قبل أيام بمصرع 19 فتاة من المنوفية خرجن فجرًا لجني العنب مقابل 130 جنيهًا (2.6 دولار) في اليوم، على طريق إقليمي انهار بعد سنوات من افتتاحه على عجل بأوامر السيسي.
هذه الحادثة المروعة لم تكن الأولى، ولن تكون الأخيرة، فالشبكة الطرقية التي أنفقت عليها الدولة مليارات، تحولت إلى مصائد موت، مع غياب الرقابة الفنية والتصميم السليم، والهدف كان فقط التسويق السياسي، لا خدمة المواطنين.
انهيار اقتصادي مريع
يحاول النظام ترويج "زيادة الأجور" كإنجاز، لكن الحقيقة أن الحد الأدنى للأجر تراجع من 170 دولارًا في 2014 إلى نحو 140 دولارًا في 2025، رغم أنه ارتفع رقميًا من 1200 إلى 7000 جنيه. السبب ببساطة هو تآكل قيمة الجنيه الذي انخفض من 7 إلى أكثر من 50 جنيهًا مقابل الدولار، في ظل تعويم متكرر للعملة وإغراق البلاد في ديون خارجية تجاوزت 155 مليار دولار.
في المقابل، ارتفعت أسعار الوقود والسلع والخدمات بشكل غير مسبوق، وتقلص الدعم، وارتفعت تكلفة المعيشة بشكل يهدد الاستقرار الاجتماعي، بينما يعيش غالبية المتقاعدين على معاشات تتراوح بين 30 و60 دولارًا، أي أقل من خط الفقر العالمي.
قمع سياسي واستبداد كامل
لم تكن الخسارة اقتصادية فقط، بل سياسية أيضًا. إذ تبنى النظام منذ البداية استراتيجية القمع الكامل، من حظر الجمعيات والمنظمات، إلى غلق المجال العام والإعلام، واعتقال عشرات الآلاف من المعارضين، وتصفية الحياة الحزبية. لقد تم تحويل مصر إلى دولة بوليسية، تُدار بقبضة أمنية خانقة، لا صوت فيها يعلو فوق صوت القائد، ولا مساحة فيها للاعتراض أو الاختلاف.
والنتيجة أن مصر اليوم تراجعت إلى المرتبة 130 عالميًا في مؤشر الفساد، في ظل غياب الشفافية والمحاسبة، وتحول أجهزة الدولة إلى أدوات لخدمة مصالح فئة صغيرة من الجنرالات ورجال الأعمال المرتبطين بالسلطة.
بيع الأرض والتفريط في السيادة
تخلى النظام عن السيادة المصرية في أكثر الملفات خطورة. فقد تنازل عن جزيرتي تيران وصنافير لصالح السعودية، ووقّع اتفاقًا يضيّع حقوق مصر التاريخية في مياه النيل لصالح إثيوبيا، وتنازل عن حقول غاز شرق المتوسط لإسرائيل واليونان وقبرص. كل ذلك في صمت مخز، مقابل دعم سياسي ومالي من الداعمين الإقليميين والدوليين للانقلاب.
انهيار إنساني واجتماعي
لم يكن الانهيار اقتصاديًا وسياسيًا فقط، بل إنسانيًا أيضًا. ففي السنوات الأخيرة تكررت حالات الانتحار الجماعي، وقتل الأمهات لأطفالهن، كما حدث مؤخرًا في حي الشروق، بسبب الضغوط الاقتصادية واليأس العام، وانتشرت أمراض نفسية واجتماعية خطيرة تعكس فقدان الأمل.
من جهة أخرى، تتزايد معدلات الفقر والبطالة، وتراجع معدلات الزواج، وسط تفاقم الغلاء وخصخصة القطاع الصحي، وتدمير الطبقة الوسطى، وتجهيل ملايين الطلاب في ظل انهيار المنظومة التعليمية.
تساؤلات مشروعة.. وإجابات مؤلمة
اليوم، وبعد 12 عامًا من "30 يونيو"، لم تعد الأسئلة هي: هل كان ما جرى ثورة أم انقلاب؟، بل أصبحت: هل ما زالت مصر دولة مستقلة فعلًا؟، أم أنها أصبحت رهينة لدول تموّل وتوجه وتستفيد؟ وهل تحولت إلى ساحة نفوذ لإسرائيل عبر وكلائها الإقليميين؟ وهل كان السيسي هو الأداة المثالية لإعادة رسم خريطة المنطقة وفقًا لمصالح الصهيونية العالمية؟
الواقع يقول إن "30 يونيو" لم تحقق سوى مكاسب لفئة محدودة من العسكر والمقربين منهم، و"3 يوليو" كان لحظة فاصلة في انكسار الحلم المصري بدولة مدنية ديمقراطية عادلة، لصالح مشروع استبدادي يُعيد إنتاج الاستعمار بأدوات محلية.
خلاصة القول:
مصر، منذ الانقلاب، لم تتقدم خطوة واحدة نحو التحرر أو التنمية؛ بل بيعت مواردها، وسُحقت طبقتها الوسطى، وقُمعت حرياتها، وتآكلت سيادتها. لقد عاد الحكم إلى فئة عسكرية لا تؤمن إلا بالمصالح، وترفع راية "الوطن" فقط حين يكون غطاءً لقمع الشعب، وتسويق الخراب باعتباره إنجازًا. فهل من صحوة قريبة؟.