في مشهد يعكس تغوّل السلطة القضائية على حقوق المواطنين وتحولها إلى أداة جباية لصالح حكومة الانقلاب أصدر ما يُعرف بـ«مجلس رؤساء محاكم الاستئناف» قراراً بمضاعفة رسوم التقاضي إلى عشرة أضعاف، بداية من مارس الماضي، ليشعل موجة غضب عارمة في الأوساط القانونية والشعبية. لكن الكارثة الأكبر التي تكشفها المستندات والأحكام القضائية، أن هذا المجلس ذاته كيان غير قانوني وغير دستوري منذ نشأته، استناداً إلى حكم قضائي بات ونهائي صادر قبل 17 عاماً يقضي بعدم شرعيته واعتبار كل قراراته كأن لم تكن.
مجلس وهمي يحصد الملايين
القرار الأخير بزيادة رسوم التقاضي لم يكن سوى حلقة جديدة في مسلسل الجباية التي تستنزف جيوب المصريين، إذ أكد خبراء قانونيون أن هذه الرسوم الجديدة تُحصّل دون سند دستوري أو قانوني، ولا تدخل الموازنة العامة للدولة، في مخالفة صارخة لمبدأ سيادة القانون. الأخطر أن المعلومات المتداولة تشير إلى أن نسبة كبيرة من هذه الجبايات تصب مباشرة في جيوب رؤساء محاكم الاستئناف تحت مسميات مكافآت وحوافز، في سابقة خطيرة لم يعرفها القضاء المصري في تاريخه.
حكم قضائي نسف شرعية المجلس
بحسب حكم صادر عن الدائرة الأولى بمحكمة القضاء الإداري برئاسة المستشار محمد أحمد عطية في ديسمبر 2008، فإن «مجلس رؤساء محاكم الاستئناف» لا وجود له في قانون السلطة القضائية رقم 46 لسنة 1972 ولا تعديلاته، ولا يتمتع بالشخصية الاعتبارية، وبالتالي فإن كل قراراته «باطلة ومنعدمة» لانعدام السند القانوني للكيان الذي أصدرها.
القضية التي فجرت هذه الفضيحة كانت قد رفعت من داخل القضاء نفسه، حين أقام المستشارون هشام جنينة، وزكريا عبد العزيز، وآخرون، دعوى ضد قرار وزير العدل بإنشاء هذا المجلس، واعتبروا تأسيسه «تغولاً من السلطة التنفيذية على القضاء ومخالفة صريحة لمبدأ الفصل بين السلطات». المحكمة أيدت وقتها هذا الطعن، إلا أن السلطة تجاهلت الحكم لأسباب سياسية، ليستمر المجلس في عمله غير الشرعي حتى اليوم.
جريمة غدر مكتملة الأركان
وصف المحامون والحقوقيون قرار زيادة الرسوم بأنه «جريمة غدر» وفقاً لقانون العقوبات، الذي يعاقب الموظف العام الذي يفرض رسوماً أو يقتطع أموالاً من المواطنين دون سند قانوني. المستشار عصام رفعت، القاضي السابق بمجلس الدولة، اعتبر القرارات «باطلة ومنعدمة، وتمثل استيلاءً على أموال المصريين»، مؤكداً أن المجلس ليس له أي وجود قانوني أو دستوري.
أما الحقوقي ناصر أمين، فقد ذهب أبعد، محذراً من أن استمرار تحصيل هذه الرسوم يمثل «فعلاً جنائياً يضرب هيبة القضاء في مقتل، ويحوله من حارس للعدالة إلى شريك في الجباية».
من القضاء إلى الجباية
اللافت أن هذا المجلس الذي لا يمتلك أي أساس قانوني، توسع على مدار سنوات في اختصاصاته حتى أصبح أداة لفرض الجبايات الجديدة، تحت مسمى «مقابل خدمات». ومع كل هذا التغول، يظل التساؤل: أين تذهب هذه المليارات المحصّلة من رسوم التقاضي؟ ولماذا لم تدخل الخزانة العامة وفق ما ينص عليه القانون والدستور؟
لماذا تجاهلت الدولة الحكم؟
مصادر قضائية كشفت لـ«العربي الجديد» أن تجاهل الحكم القضائي كان بضغط من السلطة التنفيذية التي وجدت في هذا المجلس أداة للتحايل على الدستور وفرض رسوم جديدة دون المرور عبر البرلمان، ما يحول القضاء إلى شريك غير مباشر في استنزاف المواطنين.
المصريون بين المطرقة والسندان
اليوم يجد المصريون أنفسهم بين مطرقة رسوم قضائية باهظة تعرقل حقهم في التقاضي، وسندان كيان قضائي غير شرعي يمارس دور الجابي دون حسيب أو رقيب، فيما يلوّح المحامون بالتصعيد وإضرابات شاملة في مواجهة هذه القرارات التي تعصف بمبدأ العدالة المجانية.