تواصل حكومة الانقلاب بقيادة عبد الفتاح السيسي سياسة طرح الأصول المصرية أمام الأجانب تحت لافتة "الإدارة والتشغيل"، في مشهد يكرّس التخارج التدريجي للدولة من أهم القطاعات الاستراتيجية، وعلى رأسها المطارات والموانئ.
فعلى الرغم من نفي رئيس الحكومة الانقلابى مصطفى مدبولي بيع المطارات المصرية، أعلن صراحة أن حكومته تعمل مع "مؤسسة التمويل الدولية" لطرح عدد منها أمام شركات تشغيل عالمية، موجها وزير الطيران سامح الحفني لإبرام عقود إدارة طويلة الأجل، على غرار ما جرى في الموانئ، وبنفس الحجة المتكررة: "تطوير الخدمة وجذب الاستثمار".
تطوير بالقروض.. ثم تسليم على طبق من فضة
الأمر لا يتوقف عند الإعلان، فالمطارات التي تم تطويرها بمليارات الجنيهات عبر قروض خارجية، يجري الآن تسليمها للأجانب.
مطار "برج العرب" بالإسكندرية مثال صارخ: تطوير شامل بين 2015 و2025 بالتعاون مع وكالة "جايكا" اليابانية، لرفع طاقته من 1.2 إلى 6 ملايين راكب سنويا، بتكلفة تجاوزت ملياري جنيه، ليُطرح بعد ذلك لشركات إدارة أجنبية.
وبالمثل، وجّه السيسي في يونيو الماضي بطرح مطار "الغردقة" للشراكة مع القطاع الخاص، بعد أن أُنفقت مليارات على تحديث بنيته.
في المقابل، لا يزال حجم العوائد المالية التي ستحصل عليها الدولة مقابل تسليم هذه الأصول غامضا، وسط صمت حكومي متعمد عن النسب الفعلية من الإيرادات التي ستذهب للشركات الأجنبية.
الموانئ.. تجارب مريرة تتكرر
تجربة الموانئ تكشف بوضوح ما ينتظر المطارات:
ميناء شرق بورسعيد تحت إدارة شركة "APM" الدنماركية وتحالف صيني، بعقد 30 عاما.
ميناء الإسكندرية (محطة تحيا مصر) بيد تحالف تقوده "هاتشيسون" الصينية، لمدة 30 عاما.
موانئ دبي وأبوظبي سيطرتا على العين السخنة وعدة موانئ أخرى بعقود 35 عاما، فضلا عن استحواذات بمناطق لوجستية استراتيجية.
كلها عقود طويلة الأمد تعتمد على "المشاركة بالإيرادات"، بينما تُترك تفاصيل نصيب الدولة غامضة، وتُنقل الأرباح للخارج بالعملة الصعبة، ما يضغط على احتياطيات النقد الأجنبي.
بين الدين والربح.. من يدفع ومن يجني؟
المفارقة الأكثر إيلاما – كما يصفها خبراء – أن الشعب المصري يتحمل ديون القروض التي موّلت تطوير المطارات والموانئ، بينما تجني الشركات الأجنبية أرباح التشغيل الصافية بعد استلام أصول حديثة مجهزة.
كان من المنطقي أن تُدار هذه الأصول بكفاءة وطنية لتغطية أعباء الدين وتوفير عملة صعبة، بدلا من استنزافها عبر تحويل الأرباح للخارج.
تهديد للسيادة والأمن القومي
لا يقتصر الخطر على الجانب الاقتصادي، بل يمتد إلى الأمن القومي نفسه.
فالمطارات والموانئ ليست مجرد مرافق اقتصادية، بل "بوابات سيادية" للدولة. إسناد تشغيلها لأجانب يعني أن بيانات المسافرين وحركة البضائع والمعلومات الاستراتيجية تمر عبر شركات مرتبطة بدولها، وهو ما يطرح علامات استفهام حول قدرة مصر على التحكم في نقاط دخولها وخروجها في أوقات الأزمات.
إضعاف الخبرات الوطنية
التسليم المستمر للأجانب يبعث برسالة مدمرة عن الكوادر المصرية، وكأنها عاجزة عن إدارة أصول بلادها، في حين أن هذه الكفاءات تحقق نجاحات لافتة في الخليج وأوروبا وأمريكا.
بدلا من إصلاح المناخ الإداري والسياسي الذي يدفعها للهجرة، تفضل الحكومة "الحل الأسهل": جلب إدارة أجنبية جاهزة، ما يؤدي لتآكل الخبرات المتبقية وتكريس التبعية.
بيع مصر بالتقسيط
الخلاصة أن ما يجري ليس "إدارة وتشغيلا" بل تفريط منظم في أصول سيادية، بعد تطويرها بالقروض، ليجني الأجنبي الأرباح لعقود، بينما يرزح المصريون تحت جبل من الديون.
إنها سياسة "بيع مصر بالتقسيط" عبر عقود طويلة، تُفقد الدولة السيطرة على أهم مصادر دخلها بالعملة الصعبة، وتُضعف قدرتها على حماية أمنها القومي.