في الوقت الذي يطالب فيه عبدالفتاح السيسي حكومة الانقلاب بإصلاح الصحافة والإعلام بزعم منحها حرية النقد وطرح الرأي والرأي الأخر، تلقي ميلشيات أمن السيسي القبض على عشرات الصحفيين والإعلاميين، وتتقدم وزارات الانقلاب ببلاغات ضد الصحف والصحفيين، وكان آخر هذه الكوارث البلاغ الذي تقدم به كامل الوزير وزير النقل والصناعة بحكومة الانقلاب ضد صحيفة «فيتو»، وكذلك القاء القبض على الصحفي إسلام الراجحي من مؤسسة أخبار اليوم بعد أن كتب بوست على صفحته على موقع فيسبوك عن أزمة القمامة في قريته.
هذه الإجراءات تكشف التناقض بين دعوات السيسي المزعومة لحرية التعبير، وبين الممارسات العملية التي تواجه النقد بالتهديد أو بالمحاكمات والاعتقالات.
يشار إلى أن الحالات الأخيرة ليست استثناءً، بل تعبّر عن نمط متصاعد من استخدام البلاغات الرسمية لمواجهة النقد الصحفي، وهو نمط بدأ منذ سنوات ويتوسع تدريجيًا في ظل غياب بيانات رسمية دقيقة توضح عدد البلاغات المقدمة من مؤسسات دولة العسكر ضد الصحفيين .
عدو وخصم
حول هذه الأزمة قالت إيمان عوف، عضو مجلس نقابة الصحفيين ورئيسة لجنة الحريات : "هناك مسئولون بحكومة الانقلاب يتعاملون مع الصحافة باعتبارها عدوًا وخصمًا، رغم أنها تمثل قوة ناعمة أساسية مثلها مثل الثقافة والإعلام، ومن الخطأ مواجهتها بالعداء أو التهديد أو الملاحقة القضائية، مؤكدا أن القانون واللوائح النقابية توفر حلولًا واضحة لأي خلاف، في مقدمتها حق الرد المكفول للجميع".
وأضافت إيمان عوف في تصريحات صحفية : الأزمة الحقيقية تكمن في غياب المعلومات وامتناع المصادر الرسمية عن الرد على استفسارات الصحفيين، بل إن الكثير من مسئولي حكومة الانقلاب ينتظرون ‘إذنًا’ قبل الإدلاء بأي تصريح، وهو أمر مخالف للقانون والدستور.
وأشارت إلى أن هذا الفراغ في تدفق المعلومات يضاعف من صعوبة عمل الصحفيين ويجعل احتمالية وقوع الأخطاء أمرًا واردًا
وشددت إيمان عوف على أن الحل لا يكمن في الغرامات أو القضايا، بل في إتاحة المعلومات وتمكين المسؤولين من الحديث بشفافية موضحة أنه لو كانت المعلومات متوفرة عبر قنوات رسمية واضحة، يمكن محاسبة الصحفي عند نشر خطأ من خلال النقابة باعتبارها الجهة المختصة بمساءلة أعضائها.
وأوضحت أن المشكلة أن بعض مسئولي الانقلاب لا يفرقون بين الجهات؛ فمثلًا، وزارة نقل الانقلاب أعلنت تارة أنها ستلجأ للهيئة الوطنية للصحافة والإعلام، ثم تحدثت عن بلاغ، ثم عن المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام، وهو خلط واضح في الأدوار، بينما النقابة هي الجهة الوحيدة المختصة بمحاسبة الصحفيين النقابين .
ذهنية بيروقراطية
وأكد المحامي علي أيوب، الذي تولى الدفاع عن إسلام الراجحي، أن البلاغ قُدّم من رئيسة الوحدة المحلية، وأن القضية بدأت أمام المحكمة الاقتصادية التي قضت بعدم الاختصاص، لتُحال لاحقًا إلى محكمة الجنايات.
وقال أيوب في تصريحات صحفية: إن "محاولة تنفيذ أمر الضبط والإحضار بحق موكله جرت على نحو غريب، حيث استعان أحد المحامين في فارسكور بعدد من مركبات “التوك توك” وسيارته الخاصة، مدعيًا وجود محضر جديد بالسب والقذف، ما أدى إلى توقيف الراجحي".
وأوضح أنه رافق موكله إلى محكمة دمياط لعرضه على النيابة الكلية في القضية المرفوعة من رئيسة الوحدة المحلية، لافتًا إلى أن صفته الصحفية لم تكن مذكورة في ملف التحقيق وعندما أُبلغ رئيس النيابة بهذه الصفة، طُلبت إفادة رسمية من نقابة الصحفيين، حصل عليها الدفاع لاحقًا.
وأشار أيوب إلى أنه استند في مرافعته إلى المادة (32) من قانون تنظيم الصحافة والإعلام، التي تمنع توقيع عقوبة جنائية على الصحفي بسبب انتقاده موظفًا عامًا أو مكلفًا بخدمة عامة، ما لم يثبت سوء النية أو كذب الوقائع. كما أشار إلى المادة (302) فقرة 2 من قانون العقوبات، المعدّلة بالقانونين 93 لسنة 1995 و147 لسنة 2006، والتي تُجيز نقد الموظف العام في إطار مهامه الوظيفية إذا صدر النقد بحسن نية.
وكشف أيوب أن هناك مناخًا عامًا لرفض النقد في مؤسسات دولة العسكر، وأن لجوء بعض المسئولين إلى البلاغات ضد المواطنين والصحفيين يعكس ذهنية بيروقراطية تفضّل الملاحقة القضائية على الحوار أو الاستجابة لمطالب بسيطة، مثل رفع القمامة أو تحسين مستوى الخدمات.
ولفت إلى أن مثل هذه الوقائع تُبرز غياب قنوات الحوار بين المسئولين والمواطنين، محذرًا من أن استمرار هذه الممارسات يحول مصر إلى «دولة بوليسية» بدلًا من أن تكون دولة قانون.
حرية الرأي والتعبير
وقال ياسر سعد، المحامي : "منذ عام 2008 بدأت الوزارات والمحافظون في تقديم البلاغات بأسمائهم مباشرة، بدعوى تعزيز اللامركزية، بحيث تتحرك كل جهة عبر إداراتها القانونية لمواجهة ما تعتبره مخالفات مستشهدًا بالبلاغ الذي قدّمه محافظ الفيوم عام 2008، ضد عدد من الصحفيين بدعوى ممارستهم المهنة دون قيد بالنقابة، وهي سابقة استُخدمت لاحقًا في بلاغات مشابهة امتدت حتى بعد 2011".
وأشار سعد في تصريحات صحفية إلى أن غالبية هذه البلاغات والإجراءات تخرج عن نطاق القانون والدستور، وتتصادم مع حرية الرأي والتعبير موضحا أنه بدلًا من حصر اختصاصات كل جهة، نجد حالة تداخل واسعة، حيث تقدّم وزارات وهيئات بلاغات في قضايا ليست من اختصاصها أصلًا، سواء تعلق الأمر بانتقادات صحفية أو حتى منشورات على وسائل التواصل الاجتماعي.
وكشف أن هذه البلاغات لا تحقق أي هدف إداري أو قانوني: فهي لا تضبط الأداء داخل المؤسسات، ولا تؤدي إلى نتائج حقيقية، وغالبًا ما تُحفظ ولا تستكمل إجراءاتها، إلا إذا قررت دولة العسكر التدخل لدفعها إلى القضاء، مؤكدا أنها في جوهرها بلاغات عبثية، تُستخدم كوسيلة للضغط والترهيب وتشتيت الرأي العام بمعارك جانبية، أكثر من كونها آلية قانونية أو دستورية مشروعة.