بعد التفريط في الجزر المصرية "تيران وصنافير"، والتساهل في ملف مياه النيل، وبيع أصول الدولة واحدة تلو الأخرى للخليج والإمارات تحديدًا، باتت قناة السويس ـ شريان مصر الاقتصادي والتاريخي ـ أمام تهديد وجودي، وسط غياب أي رؤية استراتيجية من نظام السيسي الذي حول البلاد إلى "سوق عقار" تُباع فيه الأصول بالقِطعة، بينما يقوم الخليجيون بدور الوكيل الاقتصادي لإسرائيل في المنطقة.
وبعد أن باع المنقلب السفيه عبد الفتاح السيسي تيران وصنافير، وترك مياه النيل رهينة لاتفاقيات مجحفة، وتنازل عن عشرات من الأصول الاستراتيجية للخليج والإمارات تحديداً كوكيل اقتصادي لإسرائيل، ها هو الشريان الأهم في تاريخ مصر، قناة السويس، يواجه اليوم أخطر تهديد في تاريخه الحديث. فالممر الملاحي الذي ارتبط بدماء مئات الآلاف من الفلاحين المصريين الذين ماتوا أثناء حفره، صار مهدداً بفقدان قيمته بفعل مشاريع دولية بديلة، في وقتٍ تكتفي فيه السلطة الحاكمة بالفرجة.
الصين تفتح ممرًا بديلًا.. وقناة السويس تخسر
القناة سجلت العام الماضي تراجعًا بأكثر من 60% في حركة مرور السفن، وخسائر مالية بلغت 7 مليارات دولار، في وقت تستعد فيه الصين لإطلاق ممر تجاري جديد عبر القطب الشمالي إلى أوروبا. هذا الطريق سيختصر زمن الرحلة من الصين إلى ألمانيا إلى 18 يومًا بدلًا من 28 عبر قناة السويس، أي أسرع بـ40%، ما يهدد مكانة الممر المصري الذي دفع المصريون دماءهم ثمناً لحفره.
العالم يتغير.. ومصر تتفرج
بينما تتحرك الصين وروسيا وأمريكا لرسم خرائط جديدة للتجارة والطاقة العالمية، يكتفي نظام السيسي بالصراخ عن "أهمية القناة"، دون أي استثمار جاد لتحويلها إلى منطقة لوجستية وصناعية تضيف قيمة مضافة. خبراء يؤكدون أن دخل القناة، حتى في أفضل سنواته، لم يتجاوز 2.5% من الناتج القومي، وكان يمكن تعويضه أضعافًا لو تم الاستثمار في التعليم والتكنولوجيا والتصنيع، بدلًا من سيطرة الجيش وتحويل الاقتصاد إلى ثكنة مغلقة.
الإمارات تتقدم.. ومصر تتراجع
بينما تحقق موانئ دبي في جبل علي إيرادات تجاوزت 18 مليار دولار في 2024، بفضل البنية التحتية والقوانين الجاذبة، يظل دخل قناة السويس محصورًا في رسوم عبور السفن. ورغم أن مشروع تحويل المنطقة إلى مركز صناعي ولوجستي كان مطروحًا منذ 2012، إلا أن السيسي أهدر الفرصة، كما أهدر قبلها ثروات الغاز، والجزر، والأراضي، ليترك مصر على هامش التحولات العالمية.
ممرات جديدة.. وخطر متصاعد
إلى جانب الممر القطبي، يظهر "ممر بايدن" (الهند–الإمارات–إسرائيل–أوروبا) كمنافس إضافي يلتف على قناة السويس. ومع انشغال النظام بالجباية والاقتراض، يجد المصريون أنفسهم أمام مستقبل مظلم قد تفقد فيه القناة قيمتها الاستراتيجية، وتتحول من "ورقة قوة" إلى مجرد ممر تقليدي لا قيمة له في خريطة التجارة الدولية الجديدة.
سؤال المستقبل
في ظل هذه التهديدات، يبرز سؤال جوهري: من سيتصدى للتفريط الممنهج في مقدرات مصر؟ وهل يترك المصريون السيسي يكمل مسلسل البيع والارتهان للخليج والإمارات ـ الوكيل الاقتصادي لإسرائيل ـ حتى يصل الدور إلى قناة السويس، كما وصل من قبل إلى تيران وصنافير، ومياه النيل، وأصول الدولة التي بيعت بالمزاد؟
الصين تتحدى القناة بممر القطب الشمالي
بينما تشهد قناة السويس تراجعاً يفوق 60% في حركة السفن وخسائر تجاوزت 7 مليارات دولار في 2024، تستعد الصين لتدشين خط شحن عبر القطب الشمالي في سبتمبر المقبل، يربط موانئها بأوروبا خلال 18 يوماً فقط، أي أسرع 40% من المسار المصري الذي يستغرق 28 يوماً.
هذا المشروع، المدعوم بتقنيات متقدمة لكسر الجليد ومراقبة المسارات البحرية، يلقى استجابة واسعة من شركات التجارة الإلكترونية والمصنعين في الصين، وسط توقعات بتوسع هائل خلال السنوات القادمة، بما يعني أن منافساً استراتيجياً للقناة المصرية بدأ يتشكل بجدية.
"ممر بايدن".. الإمارات وإسرائيل في الصورة
إلى جانب الصين، ظهر "ممر بايدن" أو مشروع الهند-الشرق الأوسط-أوروبا الاقتصادي الذي يمر من الهند إلى الإمارات، ثم براً عبر السعودية والأردن وصولاً إلى إسرائيل، قبل أن يكمل إلى أوروبا. المشروع المدعوم أمريكياً يطرح بديلاً آخر لقناة السويس، ويمنح لإسرائيل دوراً محورياً في ربط آسيا بأوروبا على حساب مصر.
وهكذا تتحول الإمارات وإسرائيل إلى لاعبين رئيسيين في خريطة الممرات البديلة، في وقت يقف فيه النظام المصري مكتوف الأيدي بعدما فرّط في أوراق القوة واحدة تلو الأخرى.
القناة تتراجع.. والسلطة تبرر
أرقام هيئة قناة السويس تكشف تدهوراً غير مسبوق: من 25 ألف سفينة في 2023 إلى أقل من 15 ألفا في 2024، ومن إيرادات 10.25 مليار دولار إلى نحو 6.5 مليار فقط. ومع ذلك يواصل إعلام النظام تضخيم أهمية القناة وتبرير الفشل، رغم أن دخلها لا يمثل سوى 2.5% من الناتج القومي، بينما الاقتصاد ينهار تحت وطأة الديون والفساد العسكري.
الخطر استراتيجي.. والحل كان معروفاً
الخبير مراد علي يؤكد أن "المشكلة ليست في قناة السويس بحد ذاتها، بل في غياب رؤية لتطويرها". ويشير إلى أن مشروع تحويل المنطقة الاقتصادية المحيطة بالقناة إلى مركز صناعي ولوجستي عالمي كان مطروحاً منذ 2012، لكنه أهمل لصالح المشروعات الوهمية والتفريط في الأصول.
وفي المقابل، تحقق الإمارات عبر ميناء جبل علي وحده إيرادات تجاوزت 18 مليار دولار سنوياً، أي ضعف ما تحققه القناة، بفضل بيئة تشريعية جاذبة للاستثمار، بينما تحولت قناة السويس في مصر إلى مجرد ممر عبور تجني الدولة منه رسوم مرور فقط.
من يوقف نزيف التفريط؟
اليوم، يواجه المصريون سؤالاً مصيرياً: بعد التفريط في الأرض والمياه والأصول، هل يأتي الدور على قناة السويس؟ وهل يستمر السيسي في تقديم مقدرات مصر لقوى إقليمية ودولية، فيما تتحول الإمارات إلى الوكيل الاقتصادي لإسرائيل، وتضيع أوراق القوة المصرية التاريخية؟
القضية لم تعد اقتصادية فقط، بل معركة وجودية تتعلق بمستقبل مصر ومكانتها في التجارة الدولية. ومع غياب الشفافية واستمرار الحكم العسكري، تبقى القناة، مثل غيرها من مقدرات الوطن، في مهب التفريط والانهيار.