مصر تواجه أزمة دوائية مدمّرة ..ديون تُخنق الصناعة وهيمنة عسكرية تُعطّل السوق.

- ‎فيتقارير

 

بينما تتفاقم الأزمات الاقتصادية في مصر، تدخل صناعة الأدوية نفقًا مظلمًا، وسط تراكم ديون حكومية ضخمة وانسحاب تدريجي للشركات المحلية من مشهد الإنتاج. الأزمة، التي كانت حتى وقت قريب تُناقش خلف الأبواب المغلقة، باتت اليوم تمس حياة ملايين المرضى مباشرة، وتتسبب في نقص حاد في 800 صنف دوائي أساسي، من بينها أدوية حيوية لعلاج الأورام، وأمراض القلب، والسكري، والجلطات، وصولًا إلى الحقن الهرمونية وبخاخات الربو.

 

في الوقت ذاته، أُعلنت وفاة الإعلامية المصرية عبير الإباصيري، بعد معاناة مع مرض عضال، وسط تداول تقارير تؤكد أن نقص العلاج وغياب الدواء المناسب كان أحد أسباب تدهور حالتها الصحية. القصة صادمة، لكنها ليست استثناء؛ بل مثال صارخ على ما يعانيه آلاف المرضى يوميًا، في بلد لم يعد فيه الحصول على الدواء أمرًا مفروغًا منه.

 

ديون تُخنق الصناعة.. وهيمنة تُعطّل السوق

 

تعكس أزمة الدواء في مصر خللًا هيكليًا في إدارة القطاع الصحي، على رأسه هيمنة الدولة، ممثلة في الجيش، عبر "هيئة الشراء الموحد"، على عملية استيراد وتوزيع الدواء. الهيئة التي أُنشئت بقرارات رئاسية، أصبحت البوابة الوحيدة لتوفير العملة الصعبة لاستيراد المواد الخام والأدوية، لكنها اليوم تواجه اتهامات بـ"شلل السوق" و"تراكم فواتير غير مدفوعة" لصالح شركات الأدوية.

 

رئيس المعهد القومي للأورام الأسبق، د. مدحت خفاجي، صرّح بأن مستحقات الشركات لدى هيئة الشراء الموحد تُقدّر بنحو 30 مليار جنيه، تشمل صفقات مواد خام وأدوية أُدخلت البلاد دون سداد قيمتها بالدولار. فيما قدرت شركات كبرى مثل "ابن سينا" و"فارما أوفرسيز" و"مصر فارما" متأخراتها الإجمالية بنحو 32 مليار جنيه.

 

انسحاب الشركات.. وانتعاش السوق السوداء

 

مع تراكم الديون وغياب الدولار، توقفت خطوط إنتاج في مصانع محلية، فيما انسحبت شركات توزيع كبرى من استيراد الأدوية، ومنها المضادات الحيوية وألبان الأطفال المدعومة. وأدى ذلك إلى ارتفاع جنوني في الأسعار، وخلق بيئة خصبة لـ"السوق السوداء"، حيث تُباع الأدوية بأسعار مضاعفة، في ظل عجز المستشفيات والصيدليات عن توفيرها.

 

مؤتمرات بلا قرارات.. والمرضى هم الضحايا

 

مؤتمر "فارما كونكس 2025" الذي استضافته القاهرة مؤخرًا لم يقدّم حلولًا حقيقية للأزمة، رغم مشاركة ممثلين عن 40 جهة دولية. المفارقة أن أغلب شركات الأدوية المحلية وقيادات وزارة الصحة تغيبت عن المؤتمر، ما أظهر حجم الانفصال بين متخذي القرار والواقع المرير للمرضى.

 

أزمة أخلاقية قبل أن تكون اقتصادية

 

في ظل استمرار الاحتكار المؤسسي لسوق الدواء، وتراجع دور الدولة في حماية صحة المواطن، تتجاوز الأزمة بعدها الاقتصادي لتصبح أزمة إنسانية وأخلاقية. فحين يُترك المواطن فريسة المرض، يُختبر الضمير العام.

 

وربما تكون وفاة عبير الإباصيري بمثابة ناقوس خطر، يدق باب كل بيت في مصر، يذكّرنا بأن الدواء ليس رفاهية، بل حق أساسي في الحياة، لا يجوز أن يخضع لمعادلات الاحتكار أو الحسابات الأمنية.