الصراحة الغائبة في مصر

- ‎فيمقالات

بقلم/ سامح راشد

منذ ما يزيد على عشرة أعوام، تعيد السلطة المصرية إنتاج الأفكار والسياسات والطرق نفسها التي تُدار بها الشؤون العامة، بما فيها السياسة والاقتصاد والقوانين والإعلام والمحليات، وغيرها. فبنظرة سريعة، ليست إلى الأداء الحكومي الكارثي بذاته، وإنما بالأساس إلى طريقة وأسلوب عمل الحكومات المتعاقبة وأجهزة الدولة، يمكن بسهولة ملاحظة أن الشعب في نظر السلطة ليس ناضجاً بما يكفي لمعاملته برشادة ومخاطبة عقله بحكمة ووعي. إذ تُعامل الدولة المصرية مواطنيها كما لو كانوا أطفالاً قُصّراً أو فاقدي الأهلية. أو في أحسن الأحوال كأن الشعب المصري ينسى كما يتنفّس، ولا يملك سوى ذاكرة السمك؛ فلا يتعلم من الأحداث ولا يتّعظ من التجارب.

 

قبل بضعة أشهر، انتشرت ظاهرة البنزين المغشوش، وأصيبت بسببها أعداد من السيارات بمشكلات فنية. وعلى الفور، خرجت تصريحات رسمية من وزارة البترول المصرية تنفي وجود أي أخطاء أو سلبيات في وقود السيارات. وبعد أيام قليلة أقرت الدولة بالمشكلة، وقرّرت تعويضات للمواطنين المتضررين. وتكرّر الأمر عند انكسار صمام في خط المياه الرئيسي الخاص بمناطق واسعة بمحافظة الجيزة، فتكرّر الإنكار، ثم الإقرار، وأضيف إليه اعتذار.

 

ومع دخول فصل الصيف بنهاره الملتهب وليله المختنق، يتكرّر أسبوعياً خبر تنشره وسائل الإعلام المصرية، يبشّر بانخفاض درجات الحرارة "خلال أيام". وتتزيّد بعض الصحف والمواقع، فتضيف أن أمطاراً ستصاحب الانخفاض المتوقع (!). وبعد أيام قليلة يفاجأ المصريون بوسائل الإعلام نفسها، تشير إلى "موجة حارّة قادمة". ولا تذكر أن موجة الطقس الحارّ لم تكن قد انتهت أصلاً ومستمرّة منذ أسابيع عدة.

 

أذكر جيداً قبل أربعة أعوام، ومع انحسار أزمة كوفيد – 19، أعلن رئيس الوزراء المصري، مصطفى مدبولي، أن عام 2023 سيشهد انتهاء أزمة الغاز الطبيعي وستحقق مصر الاكتفاء الذاتي منه. ثم جاء عام 2023 ومضى من دون اكتفاء ولا احتواء. وفي 2025، جدّدت القاهرة العمل باتفاق استيراد الغاز من إسرائيل. وكانت الحكومة المصرية قد أعلنت بشكل قاطع، ألا انقطاع للكهرباء ولا "تخفيف للأحمال" هذا الصيف. لكن الانقطاعات استمرّت، وإن تراجعت معدّلاتها.

 

وقد لا يتذكّر المصريون عدد المؤتمرات التي انعقدت لتشجيع الاستثمار وتحسين المناخ الاستثماري، غير عشرات المرّات التي أكد فيها المسؤولون التوجّه نحو قانون استثمار موحّد، وآلية الشباك الواحد، واختصار مدد التصاريح والتراخيص وإجراءاتهما، وغير ذلك من تصريحات وردية لم يزل الرسميون يردّدونها ويكرّروها منذ سنوات.

 

قبل سنوات أيضاً، صدر قرار من رئيس الوزراء المصري، بحق المواطن في دخول أي مشفى في حالات الطوارئ وتلقي العلاج اللازم مجاناً. وقبل أيام، توفيت إعلامية مصرية في مشفى رفض تقديم الخدمة الطبية الضرورية قبل دفع التكلفة. ومع الضجّة التي أثارتها الواقعة المحزنة، خرج رئيس الوزراء ليكرّر مقولة حق المواطن في تلقي الخدمة الطبية في حالة الطوارئ، كما لو كان قد نسي أن ثمّة قراراً رسمياً بذلك صدر قبل أعوام. أو ربما ظن أن المصريين هم الذين نسوا ذلك.

 

وتشهد تجارب الشعب المصري، قديماً وحديثاً، أن للصبر والجلد و"طول البال" نهاية، وأن مردود المبالغة في الرهان على قوّة تحمل المصريين، والإمعان في تحقير عقولهم والاستهانة بوعيهم؛ في النهاية، كالنبش في القبور. حين يخرج الوحش المتغافل المتسامح، من قلب المصري الطيب الطيع.

 

مشكلة السلطة المصرية مع الشعب، في تدنّي تقديرها له والتعاطي معه مجرّد كيان تابع محدود القدرات مسلوب الإرادة. وهي لا تدرك أن للشعب عقلاً جمعياً وذاكرة لا يمحوها الزمن. ربما تُغفل أشياء وتتجاهل أخرى، لكنها أبداً لا تنسى.