في واحدة من أكبر قضايا الفساد المالي التي تضرب نظام الانقلاب فى مصر في السنوات الأخيرة، كشفت أوراق تحقيقات نيابة الأموال العامة العليا عن تورّط قيادي بارز في حزب "مستقبل وطن" – الذراع السياسية لعبد الفتاح السيسي – في الاستيلاء على نحو 85 مليون دولار (ما يعادل 4 مليارات جنيه مصري تقريباً) من حسابات مصرفية تخص رجل الأعمال القطري الشيخ محمد بن سحيم آل ثاني، أحد كبار المستثمرين في مصر والمساهم الأبرز في شركة حديد المصريين.
القضية التي حملت رقم 716 لسنة 2025 كلي وسط القاهرة، لم تُسجَّل فقط كواحدة من أكبر عمليات التلاعب المالي وغسل الأموال في تاريخ القضاء المصري الحديث، بل فتحت الباب واسعاً أمام تساؤلات مشروعة:
كيف وصل الفساد إلى قلب الحزب الحاكم؟ ولماذا بات المصريون يصفون الحزب نفسه بـ"مستنقع وطن" بعدما تحوّل إلى سوقٍ علني لبيع مقاعد البرلمان بمبالغ تصل إلى 40 ألف جنيه للعضوية؟
تفاصيل الاتهامات
بحسب قرار الإحالة، تضمّنت قائمة المتهمين:
عبد الله أحمد شاهين يوسف شاهين (كويتي الجنسية – هارب)، رئيس الاتحاد الكويتي لكرة القدم سابقاً.
عصام قاسم حبيب أبل (كويتي الجنسية – هارب)، الرئيس التنفيذي لشركة "استيت القابضة" في قطر.
عمر عادل المغاوري المصيلحي (مصري – محبوس)، رجل أعمال وعضو بارز في حزب "مستقبل وطن"، وعضو مجلس إدارة شركة إنفو ستريم للأنظمة.
التحقيقات أثبتت أن الثلاثة شكّلوا شبكة منظمة لاصطناع أوامر تحويل مصرفية مزوّرة، وإعداد عقود بيع أسهم وهمية، عبر استغلال أوراق موقَّعة على بياض من الشيخ القطري، ثم ملأها ببيانات كاذبة. ومن خلال هذه الوثائق المزوّرة، نجحوا في الاستيلاء على مبالغ ضخمة تجاوزت ملياري و720 مليون جنيه من حسابات شركاته في بنك "عودة – مصر".
شهادة أحمد أبو هشيمة
من بين المفاجآت في أوراق القضية، جاءت شهادة رجل الأعمال المصري أحمد أبو هشيمة، الرئيس السابق لمجموعة حديد المصريين.
أبو هشيمة كشف أن المتهمين حاولوا عام 2016 إبعاده عن أي تواصل مع الشيخ محمد بن سحيم بحجّة "مشكلات في قطر"، ثم عادوا في 2018 ليطالبوا بإدراج بند مزوّر يفيد ببيع أكثر من 25% من أسهم شركة "يونايتد ستيل" لهم، وهو ما رفضه.
لاحقاً، تبيّن أن العقود التي استندوا إليها كانت مزوّرة بالكامل، وأن الأموال حُوِّلت إلى حساباتهم باستخدام تلك المستندات الملفّقة.
فضيحة سياسية قبل أن تكون مالية
القضية لم تعد مجرد ملف جنائي، بل تحوّلت إلى فضيحة سياسية مكتملة الأركان. فوجود قيادي في حزب "مستقبل وطن" بين المتهمين يفضح طبيعة الحزب الذي يسيطر على البرلمان بغرفتيه، والذي تحوّل – بحسب وصف المصريين – إلى "مستنقع وطن" يضم الفاسدين والمنتفعين.
النظام الذي طالما ادّعى "محاربة الفساد" يقف اليوم أمام اختبار حقيقي: هل سيجرؤ على محاسبة أحد رجاله من الحزب المقرّب من السيسي؟ أم أن شبكة المصالح أقوى من أي قانون؟
رسائل مقلقة للمستثمرين
الأخطر أن القضية تُلقي بظلال قاتمة على مناخ الاستثمار في مصر. فكيف يُسرَق رجل أعمال قطري بارز بهذا الحجم، ومن داخل البنوك المصرية، وبشراكة مع قيادي سياسي؟ وكيف يمكن للمستثمر الأجنبي أن يشعر بالأمان في بلد تُدار فيه الصفقات عبر المحسوبية والفساد، وتُباع فيه الحصانة البرلمانية بالمزاد العلني؟
بين "مستنقع وطن" والفساد البنيوي
القضية تعكس مشهداً أوسع: فـ"مستقبل وطن" لم يعد سوى واجهة سياسية لتوزيع الغنائم والمناصب، وتحويل الدولة إلى إقطاعيات شخصية. ومع كل فضيحة جديدة، يتكرّس وصف الشعب المصري للحزب: "مستنقع وطن"، لا مستقبل له سوى المزيد من الفساد والنهب.
القضية ليست فقط أكبر عملية نهب مالي لرجل أعمال أجنبي في مصر، بل تكشف عن عطب بنيوي في نظام السيسي نفسه، حيث يختلط المال بالسلطة، وتباع المقاعد والقرارات، بينما يظل المستثمر الأجنبي – حتى لو كان قطرياً مليارديراً – بلا حماية.