تزايدت الجرائم الأسرية بصورة غير مسبوقة في زمن الانقلاب، بسبب الأوضاع الاقتصادية المنهارة، والارتفاع الجنوني في الأسعار، وعجز أرباب الأسر عن تلبية احتياجات الأبناء، ونشوب صراعات بين الأزواج والزوجات حول مصروف البيت وعدم كفايته، في الوقت الذي تتراجع فيه الدخول ويفقد البعض عمله أو مصدر دخله، بسبب تعثر وإغلاق الشركات والمصانع وتسريح العمالة .
كانت منطقة فيصل بمحافظة الجيزة قد شهدت واحدة من أبشع الجرائم الأسرية التي هزت الشارع المصري، بعدما أقدم صاحب محل أدوية بيطرية على قتل سيدة وطفليها باستخدام السم، فيما عُرف إعلاميًا باسم "جريمة العصير المسموم" .
الحادث المروّع لم يكن مجرد واقعة فردية، بل أعاد إلى الواجهة ظاهرة مقلقة تتمثل في تصاعد الجرائم الأسرية وحالات العنف داخل المجتمع، حيث باتت تتكرر بوتيرة لافتة في زمن عصابة العسكر .
هذه الجريمة تطرح تساؤلات جوهرية حول الأسباب الاجتماعية والنفسية التي تدفع بعض الأفراد إلى ارتكاب جرائم بهذا القدر من القسوة، وكيف تحول الغضب أو الانتقام إلى سلوك دموي يهدد استقرار الأسرة والمجتمع ؟ .
مالك محل أدوية بيطرية
ومع كشف أجهزة أمن الانقلاب عن تفاصيل الجريمة، شهدت مواقع التواصل الاجتماعي حالة من الحزن والاستياء على الحالة التي وصل إليها الشعب المصري في زمن الانقلاب .
البداية جاءت عندما تلقى قسم شرطة الأهرام بلاغًا من الأهالي بالعثور على طفل (13 عامًا) وشقيقته (11 عامًا) في حالة إعياء شديد، توفيا لاحقا داخل المستشفى، وبفحص البلاغ وتشكيل فريق بحث، توصلت التحريات إلى أن وراء الواقعة مالك محل أدوية بيطرية يقيم في الجيزة.
كشفت التحقيقات أن المتهم استدرج الأم إلى شقة استأجرها لها ولأبنائها الثلاثة، وأثناء فترة إقامتها معه نشبت بينهما خلافات حادة بحسب اعترافه عندما اكتشف سوء سلوكها، فقرر التخلص منها وفي يوم 21 من شهر أكتوبر الجاري، حصل على مادة سامة من محل الأدوية الذي يملكه، وخلطها بعصير قدمه لها، لتسقط ضحية تسمم حاد ونقلها المتهم إلى المستشفى مدعيًا أنها زوجته، وسجل بياناته باسم مستعار قبل أن يغادر المكان تاركًا جثمانها.
الأطفال الثلاثة
وبعد ثلاثة أيام فقط، قرر الجاني إتمام جريمته بقتل أطفالها الثلاثة بالطريقة نفسها اصطحبهم في نزهة، وقدم لهم عصائر ممزوجة بالسم، إلا أن الطفل الأصغر (6 سنوات) رفض تناول العصير، فقام المتهم بإلقائه في إحدى الترع، حيث تم انتشال جثمانه لاحقًا، أما الطفلان الآخران، فقد تناولا العصير وعادا معه إلى المنزل في حالة إعياء شديد، فاستعان المتهم بعامل لديه وسائق "توك توك" دون علمهما بحقيقة الأمر لنقلهما إلى مكان، حيث تم العثور فيه على جثتيهما.
ضغوط الحياة اليومية
في هذا السياق، قال الدكتور سعيد صادق أستاذ علم الاجتماع بالجامعة الأمريكية بالقاهرة: إن "تكرار الجرائم ذات الطابع الأسري أو العاطفي في الفترة الأخيرة، يعكس خللًا واضحًا في المنظومة القيمية داخل بعض شرائح المجتمع، مشيرًا إلى أن هناك تآكلًا تدريجيًا في الروابط الاجتماعية والأسرية، ما يجعل بعض الأفراد أكثر استعدادًا لاستخدام العنف كوسيلة لحل الخلافات".
وأضاف صادق في تصريحات صحفية، أن الضغوط الاقتصادية والاجتماعية تلعب دورًا محوريًا في تفجير مثل هذه الجرائم، إذ لم يعد بعض الأفراد قادرين على تحمل ضغوط الحياة اليومية، وهو ما يدفعهم إلى سلوك عدواني وغير متزن .
وأوضح أن ضعف الوازع الديني وتراجع دور الأسرة في التربية من أبرز العوامل التي تُغذي مثل هذه السلوكيات المنحرفة، لافتًا إلى أن انتشار مواقع التواصل الاجتماعي أسهم أيضًا في تطبيع العنف، وجعله مشهدًا مألوفًا لدى كثيرين.
وطالب صادق، حكومة الانقلاب بضرورة إطلاق حملات توعية مجتمعية وإعلامية تركز على قيم التسامح والرحمة، وتعزز ثقافة الحوار والاحترام داخل الأسرة، مؤكدًا أن الوقاية تبدأ من التعليم والتربية المبكرة، وليس فقط من العقاب بعد وقوع الجريمة.
المخدرات
وقال استشاري الطب النفسي، الدكتور جمال فرويز: إن "الجرائم الأسرية التي شهدها المجتمع مؤخرًا ترتبط غالبًا باضطرابات نفسية غير مكتشفة أو بإدمان المواد المخدرة، موضحًا أن تعاطي المخدرات يُفقد الشخص السيطرة على تصرفاته، ويُضعف قدرته على التفكير المنطقي، مما يجعله أكثر ميلًا للعنف أو الانتقام".
وأضاف فرويز في تصريحات صحفية ، أن بعض مرتكبي هذه الجرائم يعانون من اضطرابات في الشخصية أو أمراض نفسية لم يتم علاجها في الوقت المناسب، ما يؤدي إلى تراكم الغضب والضغط النفسي حتى يتحول إلى سلوك دموي .
وأكد أن غياب الدعم النفسي، سواء داخل الأسرة أو في المجتمع، يجعل الأفراد أكثر هشاشة أمام الأزمات والمشاكل.
وأوضح فرويز، أن انتشار المخدرات بين فئات الشباب ساهم في ارتفاع معدلات الجريمة، خاصة أن بعض المواد المخدرة الحديثة مثل "الآيس" و"الأستروكس" تؤدي إلى فقدان كامل للوعي والإدراك، وتحول متعاطيها إلى شخص عدواني يمكن أن يرتكب أفعالًا مروعة دون وعي.
وشدد على أهمية تفعيل الرقابة على تداول المواد المخدرة والمهدئات النفسية، وتكثيف الحملات الأمنية والتوعوية بالتوازي مع دعم برامج العلاج النفسي والإدمان، مشيرًا إلى أن علاج جذور المشكلة هو السبيل الوحيد للحد من مثل هذه الجرائم.