من القواعد الأصولية الراسخة التى تترجم التواصل بين رسالات السماء، وتؤكد التآخى بين الأنبياء والرسل؛ القاعدة التى تقول: "شرع من قبلنا شرع لنا إلا ما نُسخ منه"، وقد اشتهر من تطبيقاتها عند الفقهاء والأصوليين: زواج موسى بن عمران عليه السلام فى مدين من ابنة الرجل الصالح على إيجار موسى نفسَه له ثمانى أو عشر سنوات، فأجاز فقهاؤنا أن يكون المهر خدمة يؤديها الزوج لولى الزوجة.
هارون يعلِّمنا:
وللمسألة تطبيقات أخرى فى القرآن الكريم تتجاوز الأحكام الجزئية إلى قضايا كلية ثمينة القيمة، ومنها موقف النبى الكريم هارون بن عمران عليه السلام حين ذهب أخوه موسى للقاء ربه عز وجل، وحدث ما حدث من بنى إسرائيل من عبادة العجل، فقد واجه هارون سفاهة القوم مواجهة تشير إلى عمق البصيرة وقوة التمييز وروعة الإدراك لمآلات الأفعال، فلم يلح على نهيهم عن عبادة العجل، ولم يغلظ لهم القول على خطورة ما ارتكبوا من جرم، بل نصحهم بلطف ورفق قائلا: … يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنتُم بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِى وَأَطِيعُوا أَمْرِى، فأجابوه بنفوس أمرضتها وطأة الاستعباد الطويل قَالُوا لَن نَّبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى.
كان فى إمكان هارون أن يواجه هذا الانحراف –بعد هذا الرد من قومه أو حتى قبله- بعاصفة من الغضب، وأن يستعين بمن ثبت من قومه على من انحرف منهم، ويشنها حربا ضروسا على هؤلاء الذين نزلت بهم هممهم، وانحدر بهم ذوقهم إلى الوثنية فى أردأ صورها. إلا أن النبى الفقيه رأى المسألة من زاوية أخرى ليس فيها صمت على المنكر، ولا سكوت على الباطل، وليست فيها كذلك هذه المواجهة الخشنة التى كان ولابد أن تفرق صف القوم تفريقا لا اجتماع لهم بعده، وقد قص القرآن الكريم ذلك فى حوار جرى بين الأخوين: قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا. أَلا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِى. قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِى وَلا بِرَأْسِى إِنِّى خَشِيتُ أَن تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِى إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي، فراح موسى يدعو لنفسه ولأخيه -الذى كاد القوم يقتلونه– بأن تجمعهما المغفرة والرحمة الإلهية كما تحكى سورة الأعراف: قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِى وَلأَخِى وَأَدْخِلْنَا فِى رَحْمَتِكَ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ.
رأى النبى الفقيه هارون أن ينصح القوم نصيحة رقيقة رفيقة كما سبق، فلربما جذبت إليه قلوبا، وصححت الرؤيا لدى آخرين، وأن يترك الباقين حتى يرجع أخوه موسى من رحلته المقدسة. فماذا يمكن أن يفعل موسى مع هؤلاء الشاردين من قومه مما لم يفعله أخوه هارون؟
نلاحظ أن القوم حين عبدوا العجل تعللوا لذلك بأن موسى ذهب للقاء ربه، فى حين أن ربه -كما زعموا- قابع بينهم فى صورة هذا العجل الذى صنعه السامرى، يقول الله تعالى عنهم وعن السامرى: فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِىَ. وهذا يعنى أن موسى حين سيرجع إليهم قائلا إنه جاء من لقاء ربه تعالى، فلابد أن يفهموا أن هذا الذى عبدوه إله مزوَّر، وأن مجرد التفكير فى كونه إلها هو شىء من السفاهة وقلة العقل وضعف الديانة.
كما أن القوم فى ردهم على نصيحة النبى هارون بقولهم: .. لَن نَّبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى، قد ارتضوا الاحتكام إلى نبيهم الغائب فور عودته من رحلته، أو على الأقل جعلوه جهة تبيُّن لما اختلفوا فيه من الأمر.
يضاف إلى ذلك أن شخصية موسى "عليه السلام" كان فيها من القوة والحزم ما يلائم طبيعة القوم، ويردعهم عن الشرود بعيدا عن العقل والدين، وقد جرى بينه وبين القوم حوار ملؤه اللوم والشدة، وأراهم من الأفعال –كما جاء فى سورة طه وسورة الأعراف- ما يؤكد ضلالهم وخطأهم فى عبادة العجل، حتى اعترفوا بخطيئتهم، وأقروا بذنبهم: وَلَمَّا سُقِطَ فَى أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْاْ أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّواْ قَالُواْ لَئِن لَّمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ.
ماذا نأخذ من هذا الفقه العظيم؟
وقد سقت هذا المثال القرآنى للتعاطى مع الخلافات؛ كى أدلف منه إلى قضية حية نحياها فى مصر، وتحتاج إلى هذا الفقه العظيم، فمنذ انطلقت ثورة الخامس والعشرين من يناير بزَخْمها الكبير ظهر الاستقطاب فى مصر عنيفا، ومشكلة هذا الاستقطاب هو أنه لم يتوقف عند النخب السياسية ولا المجموعات المؤدلجة من المصريين فى مواجهة بعضهم بعضا، بل تسرب إلى البنى الاجتماعية المصرية بمختلف مستوياتها.
وأصل المسألة أن الثورة قد فجرت مجموعة من القنابل عند نقاط التلاقى التى تجمع المصريين، فتقاطعت وتعارضت المصالح أحيانا والرؤى أحيانا ومصادر تلقى المعلومات أحيانا أخرى، فبدت الاختيارات فى أطراف كل موقف تقريبا حادة جدا، وقد تجلى هذا واضحا فى جميع الاستفتاءات والانتخابات التى أجريت عقب الثورة وإلى الآن حيث شهدنا انقساما اجتماعيا مخيفا.
وفى الظروف الحالية التى أعقبت انقلاب الثالث من يوليو يبدو أننا نعيش ساعات حالكة فى هذا الأمر، فالجدال والنقاش الحاد هو سيد الموقف فى البيوت والمواصلات والمصالح الحكومية والخاصة، الجدال حاد بين الرجل وزوجته حين يختلفان فى الرأى بين مؤيد للشرعية ومؤيد للانقلاب، وكذلك بين الأخ وأخيه، والمرأة وأبيها، وقل مثل ذلك عن الجيران فى البيوت والمواصلات والأصدقاء والمصلين والمسافرين وزملاء العمل… إلخ.
ولا نبالغ حين ندق نواقيس الخطر المحدق بنا وبمجتمعنا، وأنه حتى لو حُلَّت مشكلاتنا السياسية بهذه الصورة أو تلك، فإن آثار التنازع الاجتماعى الحاد الذى ينتجه الوضع السياسى الحالى فى مصر يمكن أن تبقى زمانا بل أزمانا؛ لأن الأمر يتجاوز النقاش الموضوعى والجدل الحسن إلى الطلاق والخصام والشجار والكيد لدى السلطات القابضة على الأمور فى الكنانة الحبيبة، ومن شأن هذا كله أن يستعصى على العلاج اليسير.
إنها دعوة لتجاوز الجدل حول الوضع السياسى فى مصر على مستوى العائلات والأصدقاء والزملاء والجيران ورفاق السفر، بل كل من نصادفهم أو نقابلهم فى هذا المكان أو ذاك.. ليحتفظْ كل منا برأيه، ويبتعد عن دواعى الاستفزاز وكل ما يوقظ نار الغضب فى الصدور؛ حتى نحتفظ بأواصرنا الاجتماعية سالمة من العطب، ويسهل لملمة الشمل بعد أن يزول الغثاء وتنزاح الغمة.
وإذا كان من يرفض الانقلاب مستمسكا بسلمية مواقفه وتعبيراته، فإن من تمام هذه السلمية أن تتجنب هذه الصدامات الاجتماعية المروعة، وإذا كنت تصبر على زخات الرصاص، فأولى بك أن تصبر على السب والشتم، وتعالجه بما لا يؤدى إلى تأزم المواقف وتعقّدها، ولا يعنى هذا بحال أن نسكت على من يشيع الباطل، وينشر المنكر، ويزور الحقائق، ولكن لنكن فى كل هذا حكماء عقلاء؛ حتى لا يؤدى سعينا إلى تغيير منكر ما إلى منكر أكبر.
حكايات السالفين:
وقد حكى لنا مؤرخونا عن نماذج عظيمة من سلفنا اختلفوا فى مسائل يسهل أن تفتح أبواب الشر بين أصحابها، ومع ذلك احتفظ بعضهم لبعض بالاحترام والإجلال، ومن هذا قولهم عن اثنين من التابعين: "كان أبو وائل عثمانيا –أى مائلا إلى أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضى الله عنه- وكان زِر بن حبيش علويا –أى مائلا إلى أمير المؤمنين على بن أبى طالب رضى الله عنه- وكان مصلاهما فى مسجد واحد، وما رأيت أحدا منهما قط تكلم فى صاحبه حتى ماتا"، وقال محمد بن طلحة عن الأعمش: "أدركت أشياخنا زرا وأبا وائل، فمنهم مَنْ عثمان أحب إليه مِنْ على ومنهم مَنْ على أحب إليه مِنْ عثمان، وكانوا أشدَّ شىء تحاببا وأشد شىء توددا".
ويقول بعضهم أيضًا: "كان عبد الرحمن بن أبى ليلى علويا، وكان عبد الله بن عُكَيم عثمانيا، وكانا فى مسجد واحد، وما رأيت واحدا منهما يكلم صاحبه" – يعنى كلام مخاصمة ومناظرة فى عثمان وعلى.
وحكى الجاحظ لنا عن صداقات متينة انعقدت بين أناس متناقضين فى وجهة نظرهم ومواقفهم السياسية والمذهبية أحيانا، وربما مع وجود تنافسات فى التجارة والمكانة، ومنهم: الكُمَيت بن زيد والطرماح بن حكيم، وعبد الله بن يزيد الإباضى وهشام بن حكيم الرافضى، وكذلك خالد بن صفوان التميمى وشبيب بن شيبة – يقول أبو عثمان الجاحظ: "لم ير الناس أعجب حالا من الكميت والطرمّاح، وكان الكميت عدنانيا عصبيا، وكان الطرماح قحطانيا عصبيا، وكان الكميت شيعيا من الغالية، وكان الطرماح خارجيا من الصُّفرية، وكان الكميت يتعصب لأهل الكوفة، وكان الطرماح يتعصب لأهل الشام. وبينهما مع ذلك من الخاصة والمخالطة ما لم يكن بين نفسين قط، ثم لم يجر بينهم صَرم ولا جفوة ولا إعراض، ولا شيء مما تدعو هذه الخصال إليه".
وقد يُحتَج بأن هؤلاء أهل بدعة، وأنهم قصروا فسكت بعضهم عن منكر بعض. وهو قول لا ينطبق على هؤلاء جميعا، كما أنهم إن كانوا بهذا التناقض وتعايشوا معا، فالأولى منهم شعب مصر المتجانس عرقيا ولغويا والمتشابه بعضه ببعض اجتماعيا، وكل ذلك فى انتظار عودة (موسى) حتى يتبين الحق من الباطل، فمن موسى هذا الذى ننتظره حتى نعود كلنا جملة إلى الحق الذى يذهب بمصر إلى مصاف الدول القوية المستقرة؟
Facebook Comments