في الوقت الذي تتفاخر فيه سلطات المنقلب السيسى بمشروعات ترميم معابد تاريخية ذات حساسية سياسية، يرى مراقبون أن المشهد في الداخل يكشف تناقضًا فجًّا: هدم منظم لمبانٍ تاريخية وأثرية، من المقابر الإسلامية إلى الأسواق الشعبية والمباني التراثية، لصالح مشروعات توسعية وإنشاءات إسمنتية، تحت ذريعة "التطوير".
آخر حلقات هذا المسلسل كان قرار هدم مبنى هندسة السكة الحديد في ميدان رمسيس، الذي شُيّد عام 1908 بطراز معماري فريد، وكان شاهدًا على حقبة ازدهار مصر عندما امتلكت ثاني خط سكك حديدية في العالم. المبنى كان مسجلًا ضمن المباني ذات الطراز المعماري المتميز، وفق القانون رقم 144 لسنة 2006، قبل أن يتم شطبه فجأة من السجلات في مايو 2024، بقرار من وزير الإسكان آنذاك، عاصم الجزار، في خطوة وصفها معماريون بأنها "استباقية" لإزالة أي عائق أمام مشروع تطوير الميدان.
المهندس يحيى الزيني، مؤسس ديوان المعماريين، استنكر الهدم، مؤكدًا أن "المصلحة العامة ليست في إزالة المبنى التاريخي، بل في الحفاظ عليه وإيجاد بدائل للتطوير"، مشيرًا إلى أن المشروع الدولي الذي فاز في مسابقة 2009 لتطوير ميدان رمسيس لم يتضمن هدم المبنى، لكن الدولة تجاهلت المخطط الأصلي ونفذت مشروعًا غامضًا أدى لإزالة مبانٍ تراثية أخرى، منها سوق السبتية التاريخي.
المفارقة أن محافظ القاهرة إبراهيم صابر صرح، في خضم الجدل، بأن المحافظة "لا تدخر جهدًا لجعل القاهرة متحفًا مفتوحًا"، في وقت يراه معارضون أشبه بـ"إفراغ المتحف من مقتنياته"، إذ تتكرر إزالة المعالم التراثية بحجة توسعة الكباري أو إنشاء مواقف سيارات.
ويرى خبراء التراث أن هذه السياسة لا يمكن فصلها عن نهج أشمل يتبناه النظام الحالي، بقيادة عبد الفتاح السيسي، يركز على إزاحة المعالم المرتبطة بالهوية التاريخية المصرية، مقابل تسليط الضوء إعلاميًا على ترميم مواقع أثرية معينة، بعضها مرتبط برواية تاريخية ترضي إسرائيل أو تتسق مع أولويات التطبيع الثقافي.
هذا التوجه، بحسب منتقدين، يعكس رؤية تعتبر العمارة الإسلامية والحقب الوطنية "قابلة للإزالة" لحساب مخططات استثمارية، بينما تُعامل المعابد والمواقع التي لها بعد سياسي إقليمي باعتبارها أولوية قومية. وهو ما يطرح سؤالًا أبعد: هل "التطوير" مجرد ستار لمحو ذاكرة مصر البصرية والتاريخية لصالح خريطة جديدة للمدينة تُرسم خارج إرادة أهلها؟.
رجل الأعمال المقرب من نظام السيسى، نجيب ساويرس، الذي عمل في المبنى قديمًا، قلّل من قيمته على منصة "إكس"، واصفًا إياه بـ"المتهالك"، في موقف اعتبره مهتمون بالتراث تبريرًا غير مقبول لطمس شاهد من شواهد الحداثة المصرية.
الهدم ليس حدثًا معزولًا، بل جزء من سلسلة تمتد من إزالة مقابر تاريخية في القاهرة الفاطمية إلى مسح أحياء تراثية كاملة، في مقابل تخصيص موارد ضخمة لترميم معابد ومواقع تخدم أجندات سياسية خارجية. هذا المسار يثير سؤالًا محوريًا: هل نحن أمام سياسة "إعادة كتابة التاريخ العمراني" بما يتوافق مع أولويات السلطة وتحالفاتها، حتى لو كان الثمن محو ذاكرة وطن بأكملها؟.