تتوالى فضائح الفساد في المؤسسات المالية الحكومية، في مشهد يعكس عمق الأزمة الإدارية التي تعيشها الدولة المصرية تحت حكم المنقلب عبد الفتاح السيسي، حيث تغيب الكفاءة ويُقدَّم الولاء على الأمانة، حتى وصل الأمر إلى انهيار الثقة في أكثر المؤسسات حساسية، مثل البنوك العامة التي تُعد حافظة أموال المصريين ومدخراتهم.
ففي واحدة من أكبر قضايا الفساد المصرفي، أصدرت نيابة الأموال العامة العليا قرارًا بضبط وإحضار مدير أحد فروع البنك الأهلي المصري وموظفين اثنين، إلى جانب عدد من المتهمين الهاربين، بعد تورطهم في الاستيلاء على عشرات الملايين من الجنيهات من أموال عملاء البنك، عبر مخطط مصرفي احتيالي منظم اعتمد على تزوير مستندات وسحب أموال دون علم أصحابها.
الإنتربول الدولي إصدار النشرة الحمراء
النيابة، التي أحالت القضية إلى المحاكمة الجنائية، طلبت من الإنتربول الدولي إصدار النشرة الحمراء بحق المتهمين الهاربين، وفي مقدمتهم مدير الفرع، لتعميم ملاحقتهم دوليًا. القضية المقيدة برقم 51 لسنة 2025 أموال عامة عليا، كشفت أن الجريمة لم تكن مجرد تجاوز فردي، بل نتاج منظومة مختلة غابت عنها الرقابة والكفاءة.
التحقيقات التي باشرها المستشار معتز الحميلي، المحامي العام الأول، أكدت أن مدير فرع الوراق ومراقبة خدمة العملاء بفرع نجيب محفوظ بالبنك الأهلي استغلا سلطاتهما، وقدما طلبات سحب وتحويل نقدي مزورة نُسبت زورًا إلى عملاء البنك، مدّعين حضورهم لتنفيذ العمليات، وهو ما خدع زملاءهم داخل البنك الذين أتموا الإجراءات دون تدقيق.
المتهمان حوّلا الأموال إلى حسابات وهمية تخص متواطئين آخرين، لتُسحب لاحقًا نقدًا وتُسلَّم إليهما في سلسلة عمليات تستر معقدة، شارك فيها موظفون وأقارب وأشخاص حسنو النية تم استخدام حساباتهم لإخفاء الجريمة.
ولم تقف الجريمة عند حدود التزوير الورقي، بل امتدت إلى التلاعب بالنظام الإلكتروني للبنك الأهلي، في خرق واضح لقانون التوقيع الإلكتروني رقم 15 لسنة 2004، ما يكشف هشاشة الأنظمة الرقابية وضعف البنية الإدارية داخل المصارف الحكومية.
القضية تطرح تساؤلات خطيرة حول البيئة الإدارية الفاسدة التي سمحت بتحويل مؤسسة بحجم البنك الأهلي إلى ساحة للعبث بأموال المواطنين، في ظل غياب منظومة حقيقية للمساءلة، واعتماد معايير الولاء السياسي بدلاً من الكفاءة والنزاهة في اختيار المسؤولين.
ويرى مراقبون أن ما حدث ليس سوى نتيجة مباشرة لسياسات السيسي القائمة على التمكين للمقرّبين وتهميش الكفاءات، وهو ما أدى إلى تآكل الثقة العامة حتى في البنوك الحكومية، التي كانت تعدّ سابقًا ملاذًا آمنًا لمدخرات المصريين، قبل أن تتحول إلى مسرح مفتوح للفساد المنظم، في ظل صمت رسمي وتعتيم إعلامي متعمد.
الفساد الإداري وانهيار منظومة الثقة
تعكس هذه القضية ليس فقط جريمة مالية محدودة، بل مظهرًا عميقًا من مظاهر تفشي الفساد الإداري والمهني داخل مؤسسات الدولة، بما في ذلك الجهاز المصرفي الذي يُفترض أنه من أكثر القطاعات انضباطًا ورقابة. فاختيار المسؤولين في المناصب العليا على أساس الولاء لا الكفاءة، وغياب المحاسبة الحقيقية، سمح بتمكين غير المؤهلين والفاسدين من مواقع السلطة والنفوذ داخل مؤسسات الدولة، لتتحول هذه المواقع إلى أدوات للنهب والابتزاز.
إن انهيار الثقة حتى في البنوك العامة – التي كانت تمثل سابقًا الملاذ الآمن لمدخرات المصريين – هو نتيجة مباشرة لسياسات نظام لا يعبأ بالحوكمة ولا بالكفاءة، بل يقوم على المحسوبية والتعيينات العشوائية والولاء للنظام السياسي. وبات واضحًا أن هذه الحوادث ليست استثناءً، بل عرضٌ لأزمة بنيوية تضرب جسد الدولة المصرية، حيث غاب الأمن الوظيفي والرقابة الفعالة، وحلّ محلّها مناخ من الفساد والتواطؤ الإداري، الذي يهدد ما تبقى من ثقة المواطن في مؤسسات بلده.