تسييس البحث العلمي واعتقال المتخصصين: لماذا يحتقر السيسي الأكاديميين؟

- ‎فيتقارير

 

بعد إعادة الحديث عن تجربة طلاب هندسية أسيوط الذين قضوا سنوات في السجن فقط لاختراعهم درون، اعتبر مراقبون أن تسـييس البحث العلمي ظاهرة خطيرة شهدتها دول عربية وغربية، وأدت إلى اعتراض واعتقال باحثين أو منع نشر أعمالهم، التجارب التاريخية والمعاصرة تؤكد أن استقلال البحث هو شرط أساسي لأي نهضة علمية حقيقية.

ورغم أن “الدستور” ينص على تخصيص نسبة من الناتج القومي للبحث العلمي، فإن الإنفاق الفعلي أقل بكثير، ما يعكس فجوة بين النصوص والواقع.

 

 إن تسييس البحث العلمي لا يضر فقط بالباحثين، بل يهدد مستقبل التنمية والابتكار، ويجعل استقلال البحث العلمي ضرورة لا غنى عنها لأي نهضة حقيقية.

 

وتتوزع أطر البحث العلمي في مصر بين المؤسسات (الأكاديمية والمراكز القومية)، القوانين (الدستور والقوانين الخاصة بالابتكار)، والاستراتيجيات الوطنية.

 

ورغم التقدم الملحوظ في مؤشرات الابتكار العالمية (المركز 13 عالمياً عام 2024)، إلا أن التحديات التمويلية والتنظيمية ما زالت قائمة، ما يجعل تطوير الحوكمة وزيادة الاستثمار في البحث العلمي ضرورة لتحقيق نقلة نوعية.

في فبراير 2014 أعلنت القوات المسلحة المصرية عن جهاز جديد زعمت أنه قادر على كشف وعلاج فيروس سي والإيدز، نسبته إلى معالج شعبي ينسب لنفسه دراسة “الطب” ورفعوه لدرجة لواء (عبد العاطي) وكان الدكتور عصام حجي، الذي كان وقتها المستشار العلمي لرئيس الجمهورية، صرّح أن الجهاز غير مقنع علميًا، وأنه لا يستند إلى أي أساس بحثي منشور أو معتمد في الدوريات العلمية المرموقة.

 

ووصف حجي الابتكار بأنه “فضيحة علمية لمصر”، وأكد أن الإعلان عنه بهذه الطريقة يسيء لصورة الدولة ويضر بمستقبل البحث العلمي.

 

هذه التصريحات أثارت غضب شديد داخل القوات المسلحة، التي اعتبرت كلامه خروجًا عن المألوف، بينما دار جدل واسع بين العلماء؛ بعضهم أيد موقف حجي، وآخرون دافعوا عن الجهاز.

ومن النماذج الأخير لعصام حجي اعترضه كثيرون في بحثين علميين الأول يحذر من آثار سد النهضة السلبية على مصر والآخر عن غرق الإسكندرية بسبب التغير المناخي.

وقال: إنه “غاب التحرك العلمي، والذي اجاده الطرف الآخر عن طريق مجموعات ضغط علمية تنتمى لجامعات كبرى تقوم بإعداد ونشر ابحاث تقدمها للمجتمع الدولي للتقليل من أثار سد النهضة، وبهذا الشكل فقدت مصر تدريجيا الدعم السياسي والدبلوماسي لعدم وجود ما يدعمها مخاوفها بأبحاث علمية محكمة دوليا”.

أمثلة أخرى

 

وليد سالم، باحث دكتوراه في العلوم السياسية بجامعة واشنطن واعتقل في القاهرة عام 2018 أثناء عمله على أطروحة عن استقلال القضاء المصري وقضى 6 أشهر في سجن طرة، ثم مُنع لاحقًا من السفر وصودرت أوراقه وجواز سفره.

 

وتقادم الخطيب وهو باحث في التاريخ والعلوم السياسية، شارك في جمع وثائق قضية تيران وصنافير وواجه إجراءات تعسفية منذ 2017، منها إنهاء منحة الدكتوراه وقطع علاقته بالجامعة المصرية ووقف تمويل دراسته العليا وأُحيل للمحاكمة الجنائية بتهم “الانضمام لجماعة إرهابية” رغم إقامته خارج مصر.

 

واعتقل الباحث القبطي هاني صبحي فاعتقل في أكتوبر الماضي بسبب منشورات على فيسبوك تضمنت إسقاطات دينية وتلميحات سياسية، ووجهت له تهمة “الانضمام لجماعة إرهابية” رغم أنه قبطي.

والباحث المصري أحمد التهامي عبد الحي هو أستاذ مساعد في العلوم السياسية بجامعة الإسكندرية، وقد تم اعتقاله في يونيو 2020، وظل محبوسًا احتياطيًا لفترة طويلة بسبب أبحاثه واتصالاته الحقوقية، ووُجهت له اتهامات بالانضمام لجماعة إرهابية، ونشر أخبار كاذبة، وإساءة استخدام وسائل التواصل الاجتماعي.

أما د.نادر الفرجاني خبير التنمية وأستاذ العلوم السياسية، فواجه تضييقاً ومنعاً من النشر والمشاركة في مؤتمرات بسبب انتقاداته للسياسات الرسمية.

 

واعتقلت السلطات للمرة الثانية الباحث إسماعيل الإسكندراني المتخصص في شؤون سيناء، حيث اعتُقل عام 2015 أثناء عودته من الخارج، وما زال قيد الحبس على خلفية أبحاثه وكتاباته عن الوضع في سيناء.

وأحمد سمير سنطاوي باحث ماجستير في الجامعة الأوروبية بالقاهرة، اعتُقل عام 2021 أثناء وجوده في مصر، بسبب أبحاثه حول حقوق الإنسان والسياسات الأمنية.

وواجه طارق الزمر (باحث سياسي) تضييقاً ومنعاً من المشاركة في أنشطة بحثية داخل مصر بسبب خلفيته السياسية.

الأكاديمي المصري في الجامعات اليابانية محمد علي حسن Mohamed S. Aly-Hassan قال: “أقذر شيء في مهنتنا هو تسيس البحث العلمي من أجل منصب”.

“أتذكر أستاذ دكتور من جامعة الإسكندرية كنا قد أكلنا سويا عيش وملح هنا في أحد زياراته لليابان، في 2014 كان يدافع عن سد النهضة دافعا مستميتا بل كان يقول: إن “فوائد كثيرة ستعود علي مصر بعد اكتمال بناء السد، أتضح لي أنه كان يخالف ضميره وأمانته العلمية بسبب توجه القيادة السياسية في تلك الفترة هو التهوين من أمر السد وتتبعاته، هذا الزميل للأسف كان يأمل من تطبيله للحاكم بالتلاعب بالعلم في أن يتم تعينه وزيرا للري خلفا لزميل له في نفس قسمه بهندسة الإسكندرية.،وعندما لم يحصل على ما كان يريده في التعديل الوزاري الذي حدث، أنقلب تماما ولحس كل كلامه السابق وأنكره.”.

ومنعت السلطات السفر والمشاركة الدولية على باحثين مصريين وحرمتهم من حضور مؤتمرات علمية بالخارج أو من السفر لإجراء أبحاث ميدانية، بحجة “الأمن القومي”.

وهناك حالات موثقة لباحثين أرادوا دراسة موضوعات اجتماعية أو تاريخية (مثل أنظمة الصرف الصحي في الحقبة الخديوية)، لكن طلباتهم رُفضت من الأجهزة الأمنية بدعوى أنها تمس الأمن القومي.

وأشار مراقبون إلى أن التضييق أيضا على نقد التراث أو القضايا الحساسة حيث يتعرض الباحثين الذين يتناولون موضوعات دينية أو سياسية لملاحقات، تصل إلى الفصل من العمل أو المحاكمة بتهم “ازدراء الدين” أو “نشر أخبار كاذبة”.

فضلا عن الرقابة على الجامعات حيث لا يُعيَّن أستاذ أو يُرقّى أو تُنظَّم رحلة ميدانية إلا بموافقة أمنية، وهو ما يقيّد الحرية الأكاديمية بشكل كبير.

والنتيجة هي هجرة العقول، إذ يفضل كثير من الباحثين العمل في الخارج حيث تتوفر حرية أكاديمية أكبر.

وقال تقرير لموقع مونيتور الأمريكي: إن “البحث العلمي في مصر بات منطقة محرمة، حيث يجري منع العديد من الباحثين من القيام بأبحاث معينة بدعاوى الأمن القومي وكذا تسييس المؤسسات الأكاديمية، ونقص النزاهة الأكاديمية”.

 

وروت مونيتور -في تقرير بعنوان: “البحث العلمي محرم علي المصريين”- قصة باحث مصري رغب في إجراء دراسة حول أنظمة الصرف الصحي (المجاري) خلال الحقبة الخديوية (1867-1914) لكن كان يتعين عليه التقدم من أجل الحصول على تصريح من السلطات الأمنية، وبعد شهور، قوبل طلبه بالرفض لـ”أسباب تمس الأمن القومي”.

 

ونقل الموقع عن الباحث “أشرف الشريف” أستاذ العلوم السياسية بالجامعة الأمريكية بالقاهرة، قصته التي توضح كيف أن البحث في مصر دائما منطقة محرمة، لأن مهمة الباحثين تعتمد على جمع المعلومات، ما يجعل السلطات والعامة ينظرون إليهم مثل الجواسيس، وفقا للتقرير.

 

وينوه “الشريف” لأن السلطات المصرية لا تتعامل مع مؤسسات الدولة باعتبارها ظواهر خاضعة للتحليل السياسي والاجتماعي.

 

ويعزو سبب هذه العراقيل أيضا لمن يسميهم “البيروقراطيين الصغار”، وهم موظفون في المؤسسات الحكومية يفترض أن يساعدوا الباحثين، لكن تصرفاتهم تتسم بأنها أكثر فاشية من السلطات الأمنية، ويتسببون في عرقلة الأمور شهورا طويلة.

 

فمن أجل السماح بالدخول على أرشيف السجلات الرسمية، يحتاج الباحث للتقدم بطلب للحصول على إذن السلطات الأمنية، وإذا تم رفضه، لا يحق له الاستئناف أو الشكوى أو السؤال عن سبب الرفض.

 

التقرير الأمريكي أشار إلى أن هناك عوامل كثيرة تعرقل البحث العلمي في مصر منها وجود أجيال من الأساتذة الفاسدين سياسيا واجتماعيا، بجانب البيئة المعادية، ما يجعل الباحثين الطامحين للتخلي عن آمالهم في مصر، ونقلها إلى شواطئ أخرى أكثر ترحيبا واختلافا.

 

وضرب مثالا آخر بـ”محمد الجوهري” الذي كان باحثا في مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، ثم سافر إلى الولايات المتحدة ليتعلم ويكتسب قدرات لم يستطع اكتسابها في ظل النظام التعليمي المصري، وأصبح الآن باحثا بـ معهد “أتلانتك كاونسل” البحثي.

 

ونقل عن “الجوهري” قوله: “لم نتعلم في مصر كيفية تنفيذ بحث صحيح، أو أسلوب مراجعة وانتقاد الأوراق البحثية”، ووصف مركز الأهرام بأنه: “مقبرة الباحثين”، وأكد أن “أعمال الباحثين الشباب يتم سرقتها ونسبها إلى آخرين من الكبار”.

 

وأشار إلى أن القيود لا تقتصر بحسب على البحث السياسي لكن تمتد إلى المجالين الأكاديمي والعلمي أيضا.

 

ويشير الموقع الأمريكي إلى أن خطورة أوضاع الباحثين في مصر باتت تحت المجهر الدولي بعد مقتل الباحث الإيطالي جوليو ريجيني، الذي تبعته عناصر أمنية قبل اختفائه في 25 يناير، وظهور جثته بعد أيام وعليها علامات تعذيب.

 

ويؤكد أن “مثل هذا النهج يعزي إلى إعادة ترسيخ مركزية السلطة، بجانب الأيديولوجية التي تفترض أن مؤسسات الأمن الوطني هي الحارسة على رفاهية الدولة، ومن ثم يتم اعتبارها مصدر الاستحقاق الوحيد للمعلومات”، وفقا للشريف.

 

القانون يراوغ البحث العلمي

ويشير “مونيتور” إلى أنه “من الناحية القانونية والدستورية، مسموح بالتدفق الحر للمعلومات ويعتبر أمرا مشروعا، “لكن بشرط عدم تهديد الأمن القومي”، وهو مصطلح مراوغ يؤدي إلى توسع مظلة المعلومات التي لا يمكن الحصول عليها، حسب الشريف.

 

ونص الدستور الحالي على أن تخصص الدولة من الإنفاق الحكومي نسبة 1% من الناتج القومي الإجمالي للبحث العلمي، و2% للتعليم العالي، و4% للتعليم ما قبل الجامعي، تتصاعد تدريجيًا حتى تتفق مع المعدلات العالمية.