في الوقت الذي لا يتوقف فيه إعلام الانقلاب عن الترويج لما يسميه “انفراجة سياسية”، تكشف الوقائع على الأرض عن مسار معاكس تماماً، عنوانه التوسع غير المسبوق في الإحالات إلى محاكم الإرهاب، ضمن موجة جديدة من الملاحقات ذات الطابع السياسي، تتزامن مع تحركات دولية تقودها الإدارة الأميركية بقيادة دونالد ترامب لإعادة تصنيف جماعة الإخوان المسلمين كمنظمة إرهابية، بدءاً بدول الطوق: مصر والأردن ولبنان.
وخلال أيام قليلة فقط، رصد محامون ومنظمات حقوقية مصرية إحالة مئات المتهمين من نيابة أمن الدولة العليا إلى دوائر جنايات الإرهاب، في قضايا متشابهة من حيث التهم وفضفاضيتها، وعلى رأسها: “الانضمام إلى جماعة أُسِّست على خلاف أحكام القانون”، و”التمويل”، و”نشر أخبار كاذبة”.
108 متهمين بينهم سيدتان وطفل
وفي الثالث من ديسمبر/كانون الأول الحالي، أعلنت منظمات حقوقية إحالة 108 متهمين، بينهم سيدتان وطفل، إلى محكمة جنايات الإرهاب في القضية المعروفة إعلامياً بـ”قضية ميدان” رقم 3865 لسنة 2025 حصر أمن دولة عليا. ووفق أمر الإحالة، نسبت النيابة إلى المتهمين اتهامات بتأسيس وتمويل “جماعة إرهابية” واستخدام مواقع التواصل الاجتماعي في الدعوة إلى التجمهر والتحريض على العنف، إضافة إلى الدعوة لمقاطعة البنوك والضرائب، بزعم “الإضرار بالنظام المالي”.
وضمت قائمة المتهمين سيدتين هما: سها عمر سليمان، وروضة صلاح الدين، إلى جانب الطفل خالد شريف جابر، في دلالة جديدة على اتساع رقعة الاستهداف وعدم وجود أي خطوط حمراء.
إحالات متتالية بلا توقف
وقبل ذلك بأيام، وتحديداً في 29 نوفمبر/تشرين الثاني، أحالت نيابة أمن الدولة العليا خمسين مواطناً في القضية رقم 1282 لسنة 2024 إلى محكمة الجنايات، من بينهم معارضون مقيمون في الخارج، على رأسهم الناشط أنس حبيب، وآخرون، إلى جانب المحامية بالنقض فاطمة الزهراء غريب.
كما شملت الإحالات في الثاني من ديسمبر 11 متهماً، في القضية رقم 1568 لسنة 2024، من بينهم الصحافي ياسر أبو العلا وزوجته نجلاء فتحي، مع استمرار حبسهما احتياطياً، بالإضافة إلى أربع سيدات في قضية أخرى بتهم مماثلة.
وفي مشهد يعكس العبث بطبيعة العدالة ذاتها، قررت محكمة جنايات القاهرة تحديد أولى جلسات محاكمة القضية رقم 800 لسنة 2019، المدرج على ذمتها المحامية الحقوقية هدى عبد المنعم وعائشة خيرت الشاطر، بعد نحو سبع سنوات من الحبس الاحتياطي، في واحدة من أطول فترات الاحتجاز دون محاكمة في التاريخ القضائي المصري الحديث.
أكثر من 500 قضية في أسابيع
وفي قراءة حقوقية لما يجري، قال المحامي والحقوقي خلف بيومي، مدير مركز الشهاب لحقوق الإنسان، إن الأسابيع الماضية شهدت “مفاجأة غير مسبوقة” تمثلت في إحالة أكثر من 500 قضية دفعة واحدة إلى محكمة جنايات الإرهاب. وأضاف أن هذا التصعيد يأتي في الوقت الذي كانت فيه السلطة تروّج لتعديلات على قانون الحبس الاحتياطي و”تفكيك ملف المعتقلين”، وهو ما يبرهن – بحسب بيومي – على أن حديث الانفراجة لم يكن سوى غطاء إعلامي بلا أي ترجمة حقيقية على الأرض.
وأوضح أن هذا التوسع في الإحالات يعني عملياً “إعادة تدوير الحبس” عبر المحاكمات، بدلاً من الإفراج عن المحتجزين، في سياسة تهدف إلى الإبقاء عليهم داخل السجون لأطول فترة ممكنة، خارج أي معالجة جادة لملف الاعتقال السياسي.
وأكد أن دوائر الإرهاب بدأت بالفعل في إصدار أحكام نمطية تعتمد في الغالب على تحريات الأمن الوطني، دون اعتبار للظروف الفردية للمتهمين أو ضمانات المحاكمة العادلة، وهو ما يعكس – حسب وصفه – “إرادة سياسية واضحة لإغلاق أي نافذة حقيقية لانفراجة”.
السياسة فوق القضاء
تأتي هذه الموجة من الإحالات في توقيت بالغ الدلالة، إذ تتزامن مع التحركات الأميركية لإعادة تصنيف جماعة الإخوان المسلمين كمنظمة إرهابية، وسط حديث عن ضغوط تمارس على عواصم عربية، في مقدمتها القاهرة، لتهيئة الأرضية القانونية والأمنية لهذا القرار. ويعزز هذا التزامن الشكوك حول أن ما يجري في الداخل المصري ليس معزولاً عن السياق الإقليمي والدولي، بل يأتي في إطار أداء سياسي وأمني وظيفي يهدف إلى تثبيت القبضة الأمنية وتقديم أوراق اعتماد جديدة للخارج.
انفراجة وهمية
في المحصلة، تكذب الأرقام والوقائع على الأرض رواية “الانفراجة السياسية” التي يجري الترويج لها. فبدلاً من الإفراج عن المعتقلين ووقف دوامة الحبس الاحتياطي، تشهد مصر أضخم موجة إحالات إلى جنايات الإرهاب منذ سنوات، بما يؤكد أن المشهد يتجه إلى مزيد من الانسداد، لا الانفتاح، وأن ملف الحقوق والحريات لا يزال رهينة الحسابات الأمنية والسياسية داخلياً وخارجياً.