قبيل أيام من توقيعه اتفاقيتي كامب ديفيد عام 1978، حمل الرئيس الراحل محمد أنور السادات على المصريين والعالم أجمع تحذيرًا أقرب إلى النبوءة، من أن المياه ستكون ربما هي السبب الوحيد الذي قد يدفع مصر إلى خوض الحرب مرة أخرى.
واليوم لا يزال هذا التحذير يترك أصداءه من أديس أبابا إلى القاهرة، من منبع النيل إلى مصبه، في إطار حرب كلامية يغذيها الطرفان في محاولة الضغط على الآخر لإنهاء اتفاق سد النهضة، وصلت في القاهرة إلى حد استدعاء الدعاية السابقة عن قصف سدود في إثيوبيا في عهد السادات.
تلك القصة التي تستفيد من هذا التحذير الشهير لدعم ثبوتها، فيما وصلت في أديس أبابا إلى الترويج إلى تاريخ سيئ الذكر في الحروب بين الحبشة والمحروسة، حين هزمت قوات الخديوي إسماعيل في حملته على الحبشة، ليرتفع السقف مؤخرا إلى استدعاء قادة الجيش الإثيوبي للوقوف أعلى مشروع السد، مهددين برد لا يحمد عقباه في حال تعرض مشروعهم الكبير لأي هجوم عسكري.
مشهد يتوج حالة التفوق الإثيوبي في مسار الأزمة حتى الساعة؛ إدراكًا لموقف النظام في مصر بعد إبرام اتفاق المبادئ تماما كإدراكهم حجم الاختلاف بين الجيش المصري الحالي وقادته، وبين قادة جيش أكتوبر الذين أدركوا جيدا حقيقة هذا الخطر ووضعوه في مكانه الصحيح كواحد من مهددات الأمن القومي المصري .
يدرك الإثيوبيون جيدا موقف القاهرة، فلو كانوا رأوا ولو للحظة أن لدى هذا النظام في مصر أي ورقة ضغط لما تحدثوا بهذه اللهجة تماما، كما يدركون محدودية الضغط الأمريكي المتوقع عليهم في إطار الوساطة، وهم في نهاية الأمر أهم حليف لواشنطن في منطقة القرن الإفريقي.
أما وقد استبعد السيسي حتى اللحظة فيما يبدو الخيار العسكري لأسباب لا ندركها نحن المصريين، أما وقد اكتفى بتوجيه اللوم إلى آبي أحمد عندما تحدث في أكتوبر الماضي عن استعداد بلاده لحشد الملايين للدفاع عن السد في مواجهة أي حرب محتملة عليه، فلم يعد أمام القاهرة الآن سوى استنفاد جميع الطرق الدبلوماسية والقانونية.
يبدو أن انسداد الأفق الذي يواجه المسار التفاوضي بين مصر وإثيوبيا قد فتح الباب أمام خيارات عدة، بعضها لم يكن مطروحا من قبل للعلن، منذ إعلان أديس أبابا تدشين السد على الرافد الرئيسي لنهر النيل جولة وصفت بالمكوكية، قام بها وزير الخارجية سامح شكري إلى 7 بلدان عربية، واختتمها في فرنسا طالبا الدعم السياسي للقاهرة في مسار الأزمة.
قابلتها جولة جديدة لعدد من الوفود الإثيوبية، بدأت بالعاصمة الكينية نيروبي، وتستهدف بحسب تقارير إثيوبية بلدانا إفريقية وأوروبية طلبا لدعم أديس أبابا.
من جهته قال النائب الأول لمجلس السيادة الانتقالي السوداني الفريق أول محمد حمدان “حميدتي”: إن السودان سيقوم بدور وساطة بين مصر وإثيوبيا لتقريب وجهات النظر، والوصول إلى اتفاق بشأن سد النهضة .
وجاءت تصريحات حميدتي لدى لقائه السيسي بالقاهرة، بحضور اللواء عباس كامل رئيس جهاز المخابرات العامة، الذي عاد قبل أيام من زيارة إلى السودان تناولت بحث الأزمة ذاتها.
قناة “مكملين” ناقشت، عبر برنامج “قصة اليوم”، الحراك السياسي الجديد بين القاهرة وأديس أبابا .
الدكتور سيف الدين عبد الفتاح، أستاذ العلوم السياسية، رأى أن السياسة الخارجية المصرية المتعلقة بنهر النيل اتسمت بقدر كبير من الاستخفاف والتساهل، واصفا ما حدث بأنه عبقرية الفشل في السياسة الخارجية المصرية.
وأضاف عبد الفتاح أن المفاوضات المتعلقة بأي أمر مصيري مثل المياه والأمن المائي، والتي من أجلها تخاض الحروب، ينبغي أن تنتهي.
وأوضح أن سلطات الانقلاب بددت أوراقها السياسية في التفاوض واحدة بعد الأخرى، مضيفا أن السيسي استبعد الحل العسكري تماما، ولكثرة حديثه عن الأمن القومي لم نعد نعرف ما هي مهددات الأمن القومي الحقيقية، بعد أن أصبح مفهومه غامضًا في عهد السيسي.
وأشار عبد الفتاح إلى أن الأمن القومي كان يرتبط بالحرب مع الكيان الصهيوني، والآن أصبح الدفاع عن أمن دولة الاحتلال جزء من الأمن القومي المصري، بحسب تصريحات قائد الانقلاب.
ولفت إلى أن مصر خارجها لسببين: أولهما تاريخي لأن معظم المعارك كانت تدور في الشام لصد العدوان عن مصر وكان لسيناء دور كبير في هذا، والسبب الثاني هو امتداد النيل خارج مصر.
العميد ساتي محمد، الخبير العسكري السوداني، استبعد وصول الأزمة إلى صدام عسكري، متوقعا تدخل القوى الدولية حال تأزم الموقف بين مصر وإثيوبيا.
وأضاف محمد أن إثيوبيا تعتبر سد النهضة قضية وطنية، مضيفا أن الموقف السوداني قائم بذاته ولا ينحاز لمصلحة إثيوبيا، مضيفا أن السودان يمكن أن يلعب دورا وسيطا في إنهاء الخلاف بين مصر وإثيوبيا.
وأوضح محمد أن السودان يستفيد من سد النهضة، لكن العلاقات السودانية المصرية لها جذور تاريخية ولا يمكن أن تتأثر بهذه الأزمة.