قالت العرب قديما في تراثها: “أسد عليّ وفي الحروب نعامة”، ضاربة المثل بكل من يطلق جماح غضبه في أمر، ويتجاوز المعضلات والمعارك الحقيقية التي عليه خوضها.
هذا المثل ينطبق تماما على موقف عسكر الانقلاب بمصر من تركيا فيما يخص الملف الليبي، من تعبئة قصوى، وتلويح في وسائل الإعلام بالحرب ضد أنقرة، رغم عدم وجود فعل مماثل من الطرف الآخر.
بينما إثيوبيا التي سبق ولوح رئيس حكومتها بالحرب ضد مصر، فكان تعامل نظام السفيه السيسي معه أكثر هدوءا وروية، مع أن ملف مياه النيل يعد قمة الأمن القومي للدولة المصرية.
تباين شديد في موقف القاهرة من النظامين التركي والإثيوبي، فلماذا كان حادا مع الأول وحليما ودودا مع الثاني؟. وفي صيف ٢٠١٧ قال وزير خارجية إثيوبيا حرفيا: “السيسي وقع على تنازل عن مياه النيل ويكذب على شعبه بإعلامه”، وزاد العسكر من شعر الفضيحة بيتا وقال حرفيا: “مصر أضعف من مواجهتنا”، فأراد إعلام جنرال إسرائيل السفيه عبد الفتاح السيسي عمل حفلة على الوزير الإثيوبي فقدم ما قال مترجما وموثقا بالفيديو على شاشة قنوات الانقلاب، وأصبح محفوظا على موقع اليوتيوب.!
سفيه هوليود
في عام 1997، أنتجت السينما الأمريكية فيلم “ذيل الكلب”، الذي يصور محاولة رئيس أمريكي الهروب من أزماته الداخلية وفضائحه الجنسية، عبر إشعال حرب وهمية، استعان خلالها بمنتج هوليودي ومدير علاقات عامة.
الفيلم الذي قام ببطولته روبرت دي نيرو وداستن هوفمان، يعتبره البعض نموذجا لما يعرف في السياسة بالهروب إلى الحرب، التي تكون في الغالب حربا حقيقية وليست هوليودية، ويستخدمها السياسيون للهروب من أزماتهم الداخلية، وإسكات المعارضة والأصوات الناقدة، وتوحيد الشعب تحت راية وطنية ومشاعر فياضة.
سياسة الهروب إلى الحرب بالطريقة الهوليودية ربما تكون أقرب مثال لما يحدث في مصر حاليا، حيث تتسابق اللجان الإلكترونية الداعمة للسفيه السيسي للترويج لاستعدادات مصر للحرب في ليبيا، وذلك رغم تصاعد الخطر على شريان الحياة المصري المتمثل في نهر النيل، حيث أعلنت إثيوبيا التحدي وبدء ملء سد النهضة، وسط تساؤلات النشطاء عن أيهما أخطر على مستقبل مصر وأمنها القومي، وأولى بالتدخل العسكري.
رئيس وزراء إثيوبيا آبي أحمد أكد أن قرار تعبئة سد النهضة لا رجعة فيه، وأن أديس أبابا لا تسعى لإلحاق الأذى بالآخرين، مشيرا إلى أن بلاده تقيم السد من أجل نمو إثيوبيا.
وخلال الجلسة الافتتاحية للدورة البرلمانية لمجلس النواب الإثيوبي، أوضح أحمد أن مشروع سد النهضة يتقدم وفق الجدول المحدد له، حسب ما نقلته صحف مصرية.
ورفض أحمد تحمل مسئولية تأخر دخول السد حيز التشغيل، مؤكدا أن بلاده خسرت ستة مليارات دولار، بمعدل مليار كل عام، نتيجة التراخي في تنفيذ المشروع.
كما كشف ديميك ميكونين، نائب رئيس الوزراء، عن أن بناء سد النهضة الإثيوبي الكبير يجري على قدم وساق، في محاولة لبدء ملء بحيرته بالمياه في الإطار الزمني المحدد.
وخلال زيارته موقع السد، أكد نائب رئيس الوزراء أن البناء يمضي بشكل جيد، ووصل إلى مرحلة متقدمة، وذلك بدعم شعبي قوي ورقابة حكومية وثيقة، مضيفا “نحن الآن على وشك أن نشهد المرحلة الأولى من الأخبار السارة للمشروع”.
وفي وقت سابق، نشر وزير الري الإثيوبي صورة حديثة لسد النهضة، تظهر التقدم في إنشاءات السد، استعدادا لبدء ملء الخزان مع موسم الفيضان القادم.
السيسي أطرش
وفي مقابل تصاعد لهجة التحدي الإثيوبي؛ غلب الصمت على الموقف الرسمي المصري وتبعته وسائل الإعلام، رغم دعوات وزيرة الخارجية السودانية لضرورة تبني مصر والسودان “موقفا قويا” إزاء المرحلة الأولى من ملء خزان سد النهضة.
وقالت الوزيرة السودانية أسماء محمد عبد الله: إن “إثيوبيا إذا واجهت موقفا قويا من بلادي ومصر، بألا يتم ملء سد النهضة قبل الوصول إلى اتفاق؛ ستفكر في الأمر مرتين”، مشيرة إلى أن مفاوضات سد النهضة أنجزت أكثر من 90% من ملفاتها.
تصريحات الوزيرة السودانية خرجت السبت الماضي، لكنها لم تجد آذانا مصغية في القاهرة، حيث كان السفيه السيسي مشغولا وقتها بالأزمة الليبية، وذلك في اجتماع مع اللواء المتقاعد خليفة حفتر ورئيس برلمان طبرق عقيلة صالح، لبحث سبل وقف هزائم قوات حفتر، مقابل الانتصارات المتتالية لحكومة الوفاق برئاسة فايز السراج.
انشغال السفيه السيسي بالأزمة الليبية أسفر عن “إعلان القاهرة” المطالب بوقف إطلاق النار والعودة للمفاوضات وإحياء العملية السياسية، وهو ما رفضته حكومة الوفاق المعترف بها دوليا.
من جهته، قال رئيس برلمان الدم علي عبد العال: إن مصر لن تسمح بتهديد حدودها، ولن تقف مكتوفة الأيدي للدفاع عن مصالحها ومصالح أشقائها من الشعب الليبي.
وخلال اجتماع برلمان الدم، قال عبد العال إن “مصر دولة قوية بشعبها وجيشها، وهذا الجيش من أقوى الجيوش في العالم، ولديه عقيدة ثابتة بالدفاع عن الأراضي المصرية بعمقها الاستراتيجي، وإن أي تهديد سيكون الرد عليه قاسيا ورادعا ومؤلما”.
ورغم عدم إعلان مصر رسميا المشاركة عسكريا لوقف تقدم قوات حكومة الوفاق؛ فإن أنصار النظام ولجانه الإلكترونية روجوا بكثافة لتصريحات عبد العال، وهو ما اعتبر استعدادات مصرية للتدخل العسكري، والتصدي لـ”الغزو التركي”، حسب وصفهم.
وتداول أنصار الانقلاب مقاطع مصورة لأرتال عسكرية تتحرك فيما يبدو على الطريق الساحلي الدولي غرب مصر، مع تأكيدات بأن مصر قد نفد صبرها، وأن على حكومة السراج وحليفتها تركيا تحمل المسؤولية وانتظار الجيش المصري في طرابلس.
“أسد” في ليبيا!
ودشن نشطاء هشتاج “الجيش المصري” تداولوا خلاله تصريحات عبد العال ومقاطع الأرتال العسكرية، وشارك بعضهم صورا لتدريبات القوات المصرية، في حين فضل آخرون استغلال الوسم في مهاجمة تركيا وحكومة الوفاق وجماعة الإخوان.
لكن الملفت أن أغلب من شاركوا في تغريدات هذا الهاشتاج كانوا من الإمارات والسعودية، مقابل وجود أقل للمصريين في الوسم الذي يروج لتدخل عسكري مصري في ليبيا.
لكن صفحات متخصصة في الشئون العسكرية أوضحت أن صور الأرتال العسكرية قديمة، وتعود للمناورة العسكرية “قادر 2020″، التي قام بها الجيش المصري في المنطقة الغربية أوائل العام الجاري، حيث توجد عدة قواعد عسكرية، على رأسها قاعدة محمد نجيب، التي شهدت توسعة وتطويرا، وافتتحها السفيه السيسي قبل عامين.
كما دعا المذيع المقرب من الأجهزة الأمنية أحمد موسى إلى “عدم ترديد الشائعات وتداول مقاطع مصورة”، مؤكدا أن الجيش المصري قادر في كل وقت، وأن مصر تعمل ولا تتحدث كثيرا.
ترويج التدخل العسكري في ليبيا الذي كثفته اللجان الإلكترونية لنظام السيسي، قابلته سخرية وتساؤلات من نشطاء مواقع التواصل الاجتماعي، حول حقيقة هذا التدخل، ولماذا تنشغل مصر بأخطار متوهمة، في حين تصمت عن الخطر الحقيقي الذي يطرق أبوابها عبر سد النهضة.
وقال مغردون: إذا كان لا بد من استخدام القوة العسكرية لحل أزمات مصر الراهنة، فيجب أن تكون أزمة سد النهضة في سلم أولويات الخيار العسكري.
وحذر آخرون من الانسياق وراء رغبات دولة الإمارات في حرب بالوكالة، يتورط خلالها الجيش المصري كما تورط الرئيس الراحل جمال عبد الناصر في الحرب الأهلية اليمنية في ستينيات القرن الماضي.
قلق بالغ
تصريحات صادمة، أطلقها رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد، في 22 أكتوبر 2019، عندما قال: “إذا كانت هناك ضرورة للحرب فنستطيع حشد الملايين، وإذا كان البعض يستطيع إطلاق صاروخ، فالآخرون قد يستخدمون القنابل، لكن هذا ليس في مصلحتنا جميعا”.
تصريحات آبي أحمد اعتبرها البعض تلويحا بالحرب ضد مصر، في إطار أزمة سد النهضة الإثيوبي، الذي يهدد حياة ملايين المصريين، ويضرب القاهرة في أهم ملفات أمنها القومي على الإطلاق.
رد دبلوماسية العسكر، لم يكن في مستوى التصريحات الصادمة لرئيس الوزراء الإثيوبي، الحاصل على جائزة نوبل للسلام، حيث قالت وزارة خارجية الانقلاب: إنها تتابع “بقلق بالغ وأسف شديد التصريحات التي نقلت إعلاميا ومنسوبة لرئيس الوزراء آبي أحمد، معربة عن صدمتها وقلقها البالغ”.
مضيفة أن “التصريحات تضمنت إشارات سلبية وتلميحات غير مقبولة اتصالا بكيفية التعامل مع ملف سد النهضة، الأمر الذي تستغربه مصر باعتبار أنه لم يكن من الملائم الخوض في أطروحات تنطوي على تناول لخيارات عسكرية”.
الأكثر صدمة في التعامل العسكري مع التهديد الإثيوبي، ما حدث في 25 أكتوبر 2019، بمدينة سوتشي الروسية على هامش القمة الروسية الإفريقية، عندما التقى السفيه السيسي، آبي أحمد، في لقاء شهد واقعة مثيرة بسبب طريقة جلوس آبي أحمد والتي اعتبرت مهينة للسفيه السيسي.
وأثارت الصورة المتداولة جدلا على مواقع التواصل، خاصة بعدما ظهر فيها رئيس وزراء إثيوبيا وهو يضع “قدما على قدم” بينما يجلس السفيه السيسي معتدلا، ما فسره البعض بأنه دليل على ضعف موقف مصر في مفاوضات سد النهضة بسبب وثيقة إعلان المبادئ التي وقعها السفيه السيسي في مايو 2015، وبموجبها أنجزت أديس أبابا شوطا واسعا في بناء السد الذي يهدد حصة مصر التاريخية في مياه النيل.
