فى ذكرى اليوم العالمى لوسائل التواصل الاجتماعى (30 يونيو 2021) بلغ عدد مستخدمى هذه الوسائل النشطين (3.78) مليار مستخدم فى اليوم الواحد؛ أى ما يعادل نصف سكان العالم تقريبًا. أما أكثر الفئات العمرية استخدامًا لها فهى فئة الشباب (18 -29) عامًا؛ حيث يقضى كل شخص من هؤلاء -فى المتوسط- نحو ثلاث ساعات من وقته يوميًّا على منصات التواصل المختلفة.
هذا الأمر يطرح التساؤل: وماذا فعلت الهيئات والجماعات الدعوية، الرسمية والشعبية، إزاء هذه الثورة الاتصالية التى لا شك ستحيل الوسائل الدعوية القديمة وطرق التربية التقليدية إلى الاستيداع؟ ومعلوم أن هناك هدفًا أساسيًّا للدعاة، أفرادًا وجماعات، وهو الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، وهناك الآن وسائل متطورة للدعاية لهذا الهدف أجدى وأنفع من الأُولى بكثير، بل صارت مفروضة على الداعية حيث يكون المدعوون؛ فإن لم نفعل صرنا كما قال الشاعر: (أيا صاح هذا الركبُ سار مسرعًا… ونحن قعودٌ ما الذى أنت صانعُ؛ أترضى بأن تبقى المخلَّفَ بعدَهم… صريعَ الأمانى والغرامِ منازع؟).
إلى الآن؛ هناك ما يشبه التقوقع داخل الأنماط المعتادة، لم يحدث التطور الموازى لتلك المستجدات، ولا عُشرها، صحيح هناك دعاة أفراد استثمروا هذا الفضاء الكونى المفتوح ذا المميزات العديدة وأنشئوا منصّات يتابع بعضها الملايين، وهذا جهد مشكور وذكاء من أصحابها، لكن يُفتقد التنسيق بينها، وهو ما يتوافر فى الأعمال المؤسسية والجماعية، التى تتلافى كذلك أخطاء الأفراد الذين اصطبغوا -إلى حد كبير- بصبغة مشاهير «النت» ممن يؤلفون الحِيَلَ لزيادة المتابعين ومن ثم جنى الأرباح.
لا يصح لإمام وخطيب أن يظل حتى الآن من دون مشاركة فى مواقع التواصل مكتفيًا بمن يأتيه من المصلين فى مسجده، ولا يصح أن تبقى الهيئات الرسمية الدعوية على طريقتها البيروقراطية فى توزيع منشوراتها وكتيباتها العتيقة التى فقدت «زبونها» تقريبًا، كما لم تعد «المركزية» فى الإدارة الدعوية مجدية على الإطلاق. والأمر ذاته بالنسبة للجماعات الإسلامية التى لم يعد فى صالحها ولا فى صالح الدعوة أن تبقى فى مكانها القديم فلم ترحل خلف المدعوين الذين غادروا ساحتها منذ سنين.
إننا أمام عالم من المدعوين يُقدَّر بالمليارات، وهو ما لم يحدث فى التاريخ، وأمام فرص هائلة لإدخال الإيمان فى قلوب الكافرين، وإيقاظ الغافلين الشاردين؛ ما يبشِّر بقرب تحقق حديث النبى ﷺ: «ليبلغنَّ هذا الأمرُ ما بلغ الليلُ والنهارُ، ولا يترك اللهُ بيتَ مدرٍ ولا وبرٍ إلا أدخله اللهُ هذا الدينَ بعزِّ عزيزٍ أو بذلِّ ذليل»، وهذا يقتضى دخول الجميع برسوخ إلى هذه الساحة، والتعرف على مميزاتها والاستفادة منها، وإحداها عِوضٌ عن عشرات من الوسائل القديمة؛ من حيث: التفاعلية، وسهولة الاتصال، وسهولة تخزين المعلومات، وسعة الانتشار إلخ. وهذه فرصٌ لجذب الشباب، والرد على الشبهات، وتوضيح سُبل السلام.
وإذا كانت ثمة تجارب للدعوة على «النت» فى الفترة الماضية، نجح بعضُها وأخفق البعضُ الآخر؛ فلأن هناك مفاتيح للنجاح عند التعامل مع تلك الوسائل أخذ بها من أحرزوا تقدمًا وثبَّتوا بها أقدامهم؛ منها أن يكون الداعية قدوة ذا سلوك حسن، متحليًّا بالعلم والعمل معًا، معروفًا بالوعى والحكمة، لا يبرر القبح للوصول إلى غايته، غير متطلع إلى مكاسب شخصية، وأن يكون مؤمنًا إيمانًا عميقًا بما يدعو إليه، واضعًا نُصب عينيه قول الله تعالى: (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) [يوسف: 108].
«رحم الله رجلًا عرف زمانه فاستقامت طريقته».. أما هذه الحكمة فقد ذكرها ابن عباس (رضى الله عنه) وصحتْ عمن سبقونا من الصالحين، فلتكن هذه قاعدة الدعاة، وليكونوا أسبق الناس إلى معرفة الجديد فيصح بذلك سيرهم، وتنجو قافلتهم، ويظل الدين عنوانًا لكل برٍّ وخير، وما ذاك إلا بسلوك أتباعه المجيدين الذين يمسكون بخيط أجدادهم المهتدين ممن بلغت حضارتهم الإنسانية الرشيدة آفاق العالمين.
عامر شماخ
